يشهد العالم اليوم ثورة تكنولوجية هائلة تُعرف باسم "رقمنة العالم" أو ما يسمى "بالنهضة الرابعة" والتي تنتج ثورات جديدة على مستوى التحول المتسارع نحو استخدام التكنولوجيا الرقمية في جميع جوانب حياتنا، بدءًا من طريقة عملنا وتواصلنا ووصولًا إلى طريقة تسوقنا وترفيهنا. تُعدّ هذه الثورة نتاجًا لتطورات هائلة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء و"الأبلكيشن" والواقع الافتراضي والواقع المعزز وتُتيح هذه التقنيات إمكانيات هائلة لخلق فرص جديدة وتحسين نوعية حياتنا. إن رقمنة العالم حولت نشاطات الحياة إلى مجرد إجراءات ومساطير تجعل حرية الفعل الإنساني ينتقل إلى المرحلة الآلية، وبذلك قد يفرغ الحياة اليومية من معاني الوجود وبالتالي انقلابا في القيم الإنسانية. أمام هذا السياق الجديد، بدأ البرلمان الأوروبي مناقشة العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والقيم الديمقراطية وتأثيرها على التحديات التكنولوجية والاجتماعية والتشريعية التي تواجه أوروبا في المستقبل. يعتمد عالم الاجتماع باتريس فريزي في مناقشة الانتشار المتزايد للتقنيات الرقمية على مصطلح جديد يسمى "الفردانية المرتبطة" والناشئة عن تحول الحياة الخاصة بحيث أصبح تكوين الفرد لذاته محوريًا في شبكة العلاقات التي ينسجها بنفسه وعالم الترفيه والفراغ الذي يعيش فيه. لكن مع ذلك، هذه التحولات تؤثر إيجابا على عالم الشركات، لا سيما صعود الشركات المترابطة شبكيًا، وزيادة الاستقلالية في العمل وأشكال جديدة من التعلم بحيث ساهمت هذه التطورات في تصحيح مبدأ الاستقلالية والاستخدام الشبكي لهذه الميزة الفردية. يمكن كذلك الإشارة الى أن الرقمنة خلقت ومازالت تخلق نماذج أعمال جديدة في التجارة الإلكترونية والإنترنيت بحيث تم نقل اهتمام المستهلكين من المنتجات المادية إلى الخدمات الرقمية. يؤدي نمو الأصول التي يولدها المستهلكون (المستهلكون الذين ينتجون)، مثل منصات "غوغل" و"فيسبوك"، إلى طمس الحدود بين المنتجين والمستخدمين، حيث لا تنعكس هذه الأصول في الناتج المحلي الإجمالي، فعلى سبيل المثال، تجمع "Google" الإيرادات من المعلنين الذين يشترون مساحات إعلانية ويسمحون لمستخدميه باستخدام بياناتهم وسلوك البحث الخاص بهم لتوليد إيرادات إضافية ل "Google". حسب أبحاث أخرى نشرت في مجلة "القافلة"، بلغ متوسط معدل انتشار الجيل السابق من التقنيات الرقمية حوالي 37% في عام 2017، ومن المتوقع أن يصل إلى 70% بحلول عام 2035. في المقابل، يمكن أن يصل الانتشار الواسع النطاق للذكاء الاصطناعي إلى المستوى الحالي لانتشار التكنولوجيا الرقمية في حوالي ثماني سنوات بحلول عام 2027. كل هذا التحول يضمن زيادة الإنتاجية والكفاءة في مختلف القطاعات وكذلك تحسين التواصل وتعزيز الابتكار بحيث تُحفز التكنولوجيا الرقمية على الابتكار وتُساعد على خلق أفكار ومنتجات وخدمات جديدة. من المتوقع أن تزداد الفوائد الاقتصادية التراكمية التي يضيفها الذكاء الاصطناعي والرقمنة إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي. في المتوسط، بحلول عام 2030، سيبلغ الناتج الاقتصادي العالمي حوالي 13 تريليون دولار أمريكي، أو 16% من الناتج المحلي الإجمالي التراكمي في عام 2018، ومع ذلك، فإن وتيرة تبني الذكاء الاصطناعي ستتباطأ مع ارتفاع تكاليف الرقمنة، ثم يتسارع النمو بعد ذلك بسبب المكاسب التي تتحقق في القدرات وخفض التكاليف. لكن في المقابل، حذر بول فيريليو، مؤلف كتاب "القنبلة المعلوماتية"، الذي يحذر من إمكانية حدوث "قنبلة إلكترونية" تتسبب في انهيار عالمي؛ وديك بلاك الذي يدعي أن "تكنولوجيا الكمبيوتر هي رجس من الشيطان موجه إلى الكتب"؛ ونيكولا كار مؤلفة كتاب "هل يجعلنا الإنترنت أغبياء؟" يؤكدون على أننا نعيش اليوم في ظل حرب شرسة بين تنينين: الدولة الحديثة، نتاج الحركات الإنسانية والتنويرية بأيديولوجياتها وتنظيماتها الاجتماعية والسياسية وقيمها، والدولة الناشئة التي يمثلها عمالقة تكنولوجيا المعلومات. هذه الدولة التي هي: "غوغل"، "آبل"، "فيسبوك"، "مايكروسوفت" ((GAFAM، تضعنا في مفترق طرق سياسي وأنثروبولوجي غير مسبوق، وتهدم كل منجزات النزعة الإنسانية والتنوير التي غيرت الطبيعة البشرية وأخرجت الإنسان من الكهف إلى النور الذي عرفه منذ العصور القديمة. من المتوقع أن تستمر رقمنة العالم بوتيرة متسارعة في السنوات القادمة وسيتطلب ذلك من الحكومات والشركات والأفراد التكيف مع هذا التغيير والاستفادة من الفرص التي يُتيحها، بحيث إن رقمنة العالم مسؤولية تقع على عاتق الجميع ويجب علينا العمل معا لضمان أن تستخدم هذه التكنولوجيا لخير البشرية وأن تساهم في خلق مستقبل أفضل للجميع.