قد يبدو لبعض القراء هذا العنوان مبالغ فيه وأنه أقرب للخيال العلمي من حقيقة واقع التطور التكنولوجي في عصرنا الحالي. هذه نظرة القارئ الذي ينظر للتكنولوجيا بعين الحاضر ولا يكترث لما تشهده هذه الأخيرة من تطورات متسارعة. أما القارئ الذي يتابع عن كثب تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والابتكارات التي هي في طور الإنجاز، فإنه يرى أن ربط الذكاء الاصطناعي بنهاية الإنسان له ما يبرره وأن مثل هذه التساؤلات ستُطرح بإلحاح على البشرية بعد بضعة عقود فقط. منذ اختراع الترونزيستور في منتصف القرن الماضي حتى بروز الشبكات الاجتماعية، مرورا باختراع الكومبيوتر وما تلاه من تطور كبير في البرمجيات، تسارعت الأحداث وعرفت التكنولوجيا تطورا ملفتا للانتباه. لكن في هذه الفترة، اقتصرت التكنولوجيا الرقمية على مجال المعطيات، وتميزت بالتفوق الكبير على العقل البشري في السرعة الهائلة التي تتمتع بها في معالجة تلك المعطيات وجعلها بيانات قابلة للاستعمال، ومعلومات ذكية تساعد على الابتكار. لكن مع بروز ما أصبح يُعرف بالذكاء الاصطناعي، انتقلت التكنولوجيا الرقمية من مرحلة معالجة المعطيات إلى مرحلة إنتاج المعرفة ومنافسة العقل البشري في هذا المجال. لقد ساهمت المرحلة الأولى (مرحلة معالجة المعطيات) في تمكين التكنولوجيا الرقمية من كم هائل من المعطيات والبيانات. خلال هذه المرحة كان الذكاء الاصطناعي يصاحب العقل البشري في الابتكار وتطوير التكنولوجيا الرقمية. هذه الأخيرة جعلت العالم يتحول إلى بنك من المعلومات يستحيل على العقل البشري تحليلها ومعالجتها لتصير بيانات قابلة للاستهلاك والاستعمال. إنها مرحلة إنتاج المعلومات والمعطيات بامتياز، وهذا ما خلُصت له دراسة قام بها معهد مكنزي العالمي تفيد أن حجم البيانات يتزايد بمعدل 40 % سنويا، وأن هذا الحجم في 2020 بلغ 50 مرة ضعف ما كانت عليه في 2009 حسب تقدير نفس المعهد. كما أن التحاليل تُجمع على أن 90 % من البيانات التي أنتجتها البشرية منذ القدم وإلى حدود الساعة تم إنتاجها بعد ظهور شبكة الأنترنيت والشبكات الاجتماعية. هذه الأرقام تجعلنا نعرف بالملموس حجم البيانات التي أصبحت تتناثر عبر العالم. هنا برزت الحاجة إلى التعاطي مع الحلول الرقمية، وأصبح التحول الرقمي ضرورة تكنولوجية لكل بلد يريد الانخراط في التنمية وتطوير قدراته الاقتصادية. فمجال الرقمنة أصبح يحتل مكانة كبيرة وأساسية في جميع المنتوجات التي توَصَّل إليها العقل البشري. ففي مجال السيارات على سبيل المثال، أصبح السوق التجاري يتعاطى مع السيارة التي تستعمل بكثافة الرقمنة والذكاء الاصطناعي، ولم يعد هناك مجال للسيارة الكلاسيكية. في هذه المرحلة لا بد من الإشارة لملاحظة أساسية تخص تراجع العقل البشري عن التفكير وتقاعسه في مجال الابتكار، بسبب اعتماده المتزايد على الرقمنة والذكاء الاصطناعي. فلم يعد الإنسان مستعدا لقضاء وقت طويل للبحث في العديد من الكتب أو أجزاء الموسوعات للحصول على المعلومة، في ظل إمكانية كتابة جملة واحدة في محركات البحث الرقمية، لتصله المعلومة من كل أنحاء العالم وبمختلف اللغات. المرحلة الثانية في تطور التكنولوجيا الرقمية هي مرحلة إنتاج المعرفة. خلال هذه المرحلة نلاحظ تراجع العقل البشري مقابل سيطرة الذكاء الاصطناعي. فبنك المعطيات العالمي أصبح يتوفر على كمٍّ لامتناهي من المعلومات تكون عصية على العقل البشري، لكنها في غاية السهولة بالنسبة للذكاء الاصطناعي، لأنه أصبح يتمتع بقدرات خارقة تسمح له بمعالجة الملايير من المعطيات في ثوان محدودة. هذه القدرات الخارقة بمنطق التفكير البشري، جعلت الذكاء الاصطناعي بإمكانه منافسة العقل البشري في الابتكار وإنتاج المعرفة بل حتى في الاختراع. لتوضيح الصورة أكثر يكفي أن نشير إلى التطبيق الجديد ChatGPT الذي أصبح بإمكان أي شخص أن يطلب منه عملا فيوفره له في ثوان، بدل جهد بشري قد يتطلب الساعات أو الأيام. فالروائي مثلا، يمكنه طلب رواية من عدد كبير من الصفحات في موضوع الخيال العلمي، فيوفرها له الذكاء الاصطناعي في حينه. والأمثلة في هذا المجال كثيرة وأخص بالذكر كتابة السيناريو وإخراج الأفلام. تجدر الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي، يستعمل في المرحلة الحالية، ما يتوفر لديه من معطيات في بنك المعلومات العالمي. وهو ما يجعلنا نعتقد أن انتاج المعرفة بالنسبة للذكاء الاصطناعي لا يمكنه الخروج عما تَوَفَّر لديه من معطيات، هي في الأساس من إنتاج العقل البشري. فالمثال الذي تطرقنا له سابقا، يجعل عقل الذكاء الاصطناعي يستعمل ما أنتجه العقل البشري من روايات وكتابات في موضوع الخيال العلمي، ليكتب روايته في الموضوع. لكن الذي ينبغي الإشارة له، هو أننا في المستقبل سنتحدث عن مفهوم جديد اسمه "عقل الذكاء الاصطناعي" الذي سيصبح قادرا على التفكير والابتكار إلى جانب قدرته الخارقة على معالجة المعطيات. وهو ما يجعلنا نمضي في الاعتقاد أن المستقبل قد يجعل العالم يتطور بعقل جديد هو عقل الذكاء الاصطناعي إلى جانب العقل البشري الذي سيصبح متجاوزا. حينها سنتحدث عن نهاية الإنسان ليس من منظور انقراضه أو اختفائه، وإنما من منظور تحكم الذكاء الاصطناعي في كل تفاصيل حياته وفي مستقبل العالم الذي يعيش فيه.