بين الباحثين عن الحرية والفارّين من قيد يُدمي معصم الإنسانية، كان هناك ستيفان زفايغ، ستيفان زفايغ Stefan Zweig هذا البطل في ميدان البراءة المعلقة على عمود القسوة لم يتحمل قلبه الهش أن يشهد المزيد من الدماء الجارية بها أنهار الحروب.. إنها الحروب التي كادت تحكم على الإنسان بالإبادة، فما يصنع بالتالي صاحب أكثر من قطعة من قلعة متداعية كانت في يوم من الأيام تسمى قلبا؟! وأي قلب؟! إنه ملجأ الراكضين خلف شيء من الدفء الإنساني.. إنها الإنسانية الواعدة بكل شيء ماعدا السلام، وعن هذا السلام الذي شكل النص الغائب ها هي تحكي عن نفسها قصة حياة الكاتب الشهير ستيفان زفايغ ذاك الذي فضل الخروج في صمت قبل أن تغرب شمسه إلى الأبد.. لكنها المغادرة المبكية تلك التي جَنَّدَ لها ستيفان زفايغ روحه وروح زوجته، بل لنقل إن ما من قريب من الأحبة قد سلم من كتابة نهايته، حتى الكلب المسكين قد فصَّل له ستيفان زفايغ موتة على مقاس اشتهاءات الكاتب المبدع.. نهاية حزينة يَكتبها قلمُ القَدَر لأسطورة مُسَمَّاة «ستيفان زفايغ»، إنها نهاية توزع الموت بالمجان على أفراد بيت ستيفان زفايغ، لنقل إنهم الأحبة، أقرب الأحبة إلى القلب، لذلك نرى الغريب الأطوار ستيفان زفايغ قد آثر أن يموت رفقة ذويه موتا جماعيا.. إنها قصة انتحار جماعي، أما البطولة، فقد كانت بامتياز للمنومات التي اشتهاها الكاتب لرسم نقطة النهاية لنص حياة أسرته الصغيرة (الكاتب وزوجته وكلبهما الطيِّع رغم أنفه) قبل أن يسدل الستار على مسرح حياته.. ولننظر إلى هذا الإبداع الموازي الذي حفز خالق الروايات النمساوي المحنك ستيفان زفايغ على كتابة نهايته، وكأنه تأقلم مع القلم المكيف الذي يفصل أثواب الموت والحياة لأبطال سردياته.. لا شيء قد يتطوع لتقديم بيانات تشرح وتفسر معطيات حياة غامضة سوى سيرة الكاتب الذاتية تلك التي تحمل عنوان «عالم الأمس The World of Yesterday».. «عالم الأمس» لا ينأى عن حياة ثانية يقدم فيها الكاتب أكثر من قراءة لأكثر من حدث، وهي مناسبة سمحت لستيفان زفايغ بأن يقف فيها عند فشل أوروبا وكيف انهارت تلك الحضارة.. إنه ستيفان زفايغ الكاتب الذي شكل على امتداد الزمن واحدا من أكثر الكُتَّاب الذين يحج القراء إلى عوالمهم الصاخبة والحيية.. ومتى أطلق هو العنان لقدراته على مستوى الكتابة؟! لنقل إن ذلك حصل بعد أن قفز على حائط الباكالوريا القصير نسبيا، لماذا؟! لأنه كان يحول دون تمرد ستيفان زفايغ على كل ما يقيد أصابعه الشقية الحالمة برسم عوالم تشجع على الانطلاق والتحرر من كل ما يعقد ويربط.. فمن يكون المسؤول عن فكرة انتحار بشعة قيدت من انفلات قلم ستيفان زفايغ؟! – هل هو بحر الفلسفة (الذي لا يَعِدُ بالأمان) ذاك الذي أهَّل الكاتب ستيفان زفايغ للغوص بالأدوات والعدة التي يتسلح بها الكاتب الباحث عن حقه من الخبرة والتمرس، لاسيما وأنه صال وجال في المتون الفلسفية إلى أن حاز فيها على درجة الدكتوراه؟! – هل هي السكتة القلمية تلك التي تباغت الكاتب بعد أن تفرغ «قربة» أصابعه الذكية وتشهر عجزها التام عن الاستمرار؟! – وإن كان كذلك، لماذا جاد الكاتب بالموت الموازي لكل من زوجته وكلبه، وما ذنبهما معا؟! لنقل إن المسؤولية لا غرابة أن نحملها لغياب ظروف السِّلم والسلام تلك التي تعمل على تقوية غريزة حب البقاء، وأين؟! في عالم بات مهددا بقيامة صغيرة، لاسيما في ظل الفوضى المخيم ليلها موازاة مع حمى الانفلات الأمني تلك التي باتت تهدد عالم ستيفان زفايغ.. هذه الدائرة المغلقة على سوادها ما كانت إلا لتلقي بالكبير ستيفان زفايغ في منحدر الاكتئاب الحاد ذاك الذي كان يتفاقم وقعه في صمت، حينا، وفي صخب حينا آخر، إلى أن أعلن الكاتب الإنسان إفلاسه وقد استنفد كل ما في جيوب الحياة من رغبة في المضي إلى الأمام.. الاكتئاب وحده يجبر الإنسان على المشي إلى الوراء، ويجره، ويجرده من كل أسلحة قادرة على المقاومة والتصدي للإكراهات.. ولأن ستيفان زفايغ لم يكن أبدا ذلك الرجُل العادي الذي يسهل نسيانه، فقد آثرت زوجته «لوت زفايغ Lotte Zweig» هي الأخرى أن تشاركه النهاية نظرا لتعلقها الشديد به واعترافا بحبها وإخلاصها له ورفضها أن تعيش على ظهر زورق حياة لا تعرف كيف تجدف فيه بدون زوجها.. ومع أن ستيفان زفايغ تكيف إلى حد ما مع تنقلاته من بلد إلى بلد بحكم ما كان يفرضه الواقع السياسي آنذاك، إلا أن إغراقه في إنهاك نفسه بالعمل سعيا إلى نسيان حقيقة واقعه المرة لم يشفع له حتى يتجاوز وطأة البنية النفسية الهشة تلك التي أخفق صاحبنا في دفعها إلى تجديد خلاياها.. ومع أن ستيفان زفايغ كان صديقا للعبقري سيجموند فرويد، فإن حالته النفسية لم تكن في مستوى الانتفاع من هذه الصداقة، ربما لأن الأحداث التي مهَّدَت للحرب العالمية الثانية أثرت بشكل سلبي على المسكين ستيفان هذا الذي لم يعرف كيف ينجو من تبعات ما قبل الحرب.. رصيد ثري من الروايات والمسرحيات والشعر والمقالات وما إلى ذلك من كتب كان من المؤكد أنه سيطير بالكاتب ستيفان زفايغ إلى مُدُن المجد الواعدة بلقاء مع كبريات الجوائز، يكفي التذكير هنا بجائزة بورنفيلد للشعر، وجائزة غوته.. كاتب فنان بقلمه، مرهف الإحساس، بلغ به الشغف بدراسة تاريخ الأدب والفلسفة مبلغهما، لكن ما كان له إلا أن يستسلم لقلقه الداخلي ذاك الذي حكم عليه بحياة المنافي.. هزيمة الذات في حلبة الحياة ولدت في الكاتب النفور من العالم الذي يجد نفسه فيه، يَضيق الأفق أكثر فأكثر ما أن تتمدد مساحة الخيبة عندما ينجح الزعيم هتلر في صعود سُلَّم السلطة، وتلك كانت بداية النهاية لستيفان زفايغ.. يُذْكَرُ أن أكثر ما عرف انتشارا قل نظيره من كتب ستيفان زفايغ كِتابُه «لاعب الشطرنج»، والغريب أن الكاتب قد أثرت عليه لعبة الشطرنج حقيقة ما أن تعرف عليها أثناء المرحلة البوهيمية من حياته تلك التي انفتح فيها على حياة طلاب ما يجاور البكالوريا، وهي المرة الأولى التي يجرب فيها الكاتب أن يلعب لعبة الشطرنج، ومن المؤكد أن محيط الكاتب يؤثر فيه كل التأثير.. على أن عددا من كتابات ستيفان سفايغ قد تناولت حياة المشاهير بالقراءة المحايدة. من مؤلفاته الأخرى: 24 ساعة من حياة امرأة، بُناة العالم، عالم الأمس، حذار من الشفقة، التباس الأحاسيس، عنف الديكتاتورية، ماري انطوانيت، سِرّ حارق.. مَن كان يصدق أن روحا محلقة بخفة فراشة سيمتصها حتى الموت ذاك الإحساس المرهف بالجروح التي نكأتها الحرب العالمية الثانية؟! من كان يصدق أن زوجا وديعا سيتعاهد مع زوجته على الوفاء إلى درجة أن يموتا معا في مَشْهَد عناق حارّ بعد ابتلاعهما لحفنة حبوب منوِّمَة حتى لا يَفصل بينهما شيء؟! من كان يصدق أن ستيفان زفايغ الذي أسر عيون القراء سيجد السلام في رحلة غيبوبة بلا صحو في نفق المنومات؟! مَن كان يصدِّق أن الكلب المحظوظ بأن ينال نصيبه من الدلال والألفة والحُبّ لا يَقوى الكاتب الحساس على أن يرحل بعيدا عنه ويتركه لشقاء لا يعلمه إلا الله؟! إنه الأمل، إنه الأمل في شيء من السكون حتى وإن كان في الدرك الأسفل من جهنم الحياة تحت الصفر، إنه الأمل الأكبر من الوعد.. هكذا صوَّرَ للكاتب عقلُه.