هناك حقيقة لا يمكن التجافي عنها , و هي أن أفراد مجتمعنا لا يقرؤون , و لا ينتجون , و يعيشون في حالة استهلاك مقرفة , و هذا ما يؤدي إلى تخلف مجتمعاتنا , و تفشي الجهل و الأمية فيها , و غياب الحس الواعي و النقدي في سلوكات أفرادها , فجميع المؤشرات الدولية التي تُعنى برصد التنمية البشرية , تضع الدول العربية عموما , و من بينها المغرب , في مراتب متأخرة إزاء قراءة أفراد المجتمع للكتب , و الاستئناس بأهم ما خلص إليه الفكر الإنساني الحديث في عمومه , لذلك كانت هذه الحالة السيئة التي وصلت إليها أمتنا جزءا من السؤال العريض و المدغدغ الذي أطلقه أحد أعلام الفكر الإسلامي المعاصر الأمير شكيب أرسلان حين قال : لماذا تأخر المسلمون و تقدم غيرهم ؟ صارت الآن جميع وسائل الوصول إلى المعرفة متاحة و ممكنة , و أصبح الحصول على أمهات الكتب متيسرا , عكس الماضي الذي كان يعاني أفراده مشقة تحصيل العلم , و قبض تلابيبه , فهلك كثير من طلابه و هم في طريق طلبه . بالرغم من هذا اليسر الذي نعيش فيه الآن , ما زال الإقبال ضعيفا على قراءة الكتب , فلا تخدعنا معارض الكتاب التي تقام في أوطاننا العربية , و التي تعرف إقبالا من الناس على اقتناء الكتب , لكي نقول إن حال الثقافة في بلادنا بخير , و إن علاقتنا بالكتاب في أحسن حال , لأن مصير أغلب هذه الكتب تزيين رفوف البيت , و تكديس الغبار بين دفتيها , و تكريس لظلام دامس تغرق فيه صفحاتها من شدة حرمانها من رؤية نور القراءة . إذا ما أمعنا النظر حول ما يقرأه الناس في بلدنا , نجد أن السمة الطاغية متوزعة بين الكتب الدينية , خاصة كتب الوعد و الوعيد , و الفقه , و الأدعية , و الرقائق , و بين أهم المقالات الصحفية التي يكتبها بعض الصحفيين الذين يضربون على الأوتار الحساسة التي تحدث في مجتمعاتنا , خاصة السياسية منها , لتكون الثقافة التي يراكمها أفراد مجتمعنا ثقافة دينية مشوهة بالنظر إلى التسلط الذي يفوه به بعض أدعياء العلم من المتعالمين , و بالإضافة إلى ذلك , فهذه القراءة تنتج لنا محللين سياسيين يدعون الخبرة و المراس في تقدير مآل الأحداث السياسية , تمتلئ بهم المقاهي , و تكون مراجعهم في ذلك فتات ما تلقفوه من الصحف , مرئية أو مسموعة أو مكتوبة . تبقى الكتب التي تناقش العقل , و تستدعي الفكر , و تطلب التأمل و التدقيق مغيبة , فلن تجد قارئا في مقهى أو حديقة أو حتى في المكتبات الوطنية حاملا كتب أصول التوحيد التي هي أول ما يجب علمه من الدين , أو كتب اللفظ و المعنى التي أقيمت عليها عروش الثقافة العربية الإسلامية , و بنيت عليها أغلب العلوم الإسلامية من أصول فقه و حديث و كلام ... و لا تجد ذلك إلا لماما , من عالم متبصر , أو طالب علم نجيب , و في بعض الأحيان من بعض طلاب جامعاتنا الذين تراهم مستنجدين بكتب لا يفهمون محتواها و هم غارقون في عملية الاستنساخ الحرفي لبعض فصولها بعدما طلب منهم تقديم عروض فصلية عنها , أما كتب العلوم الإنسانية الحديثة , فلها الله , فهي غائبة تماما , فصار من الناذر جدا أن تجد قارئا فضوليا يسعى إلى استكناه أسرارها , فمن المحال أن تراه يحمل بين يديه كتابا لسعيد بنكراد في السيميائيات أو نظرية الإشهار , أو كتاب الشعرية لتودوروف , أو كتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين أو كتاب اللغة العربية بين المعيارية و الوصفية ... صار مثل هذا النوع من الكتب شبه منقرض , حكرا على فئة متخصصة تبحث عن الشهادات الجامعية في تخصصها , أما أن تكون لإشباع نهم القراءة لدى بقية القراء فهذا منعدم البتة . يجب عدم نسيان أن تطور الصورة , و شيوع الإنترنيت باعد الشقة بين القارئ و الكتاب , و لكن حتى هذه الوسائل التقنية الحديثة لم يحسن استعمالها , فإما أن ترى مستعمليها غارقين في سفاسف الأشياء و توافهها , أو باحثين عن ثقافة دينية غير صحيحة , و غير مبنية على أسس علمية متينة , فقد شاع كثيرا إلى حد القرف توزيع بعض المنشورات في الفيسبوك تقول إذا لم تنشر صورة الشهادتين أو ما شابهها فاعلم أن ذنوبك قد منعتك... إلى غير ذلك من الرسائل التي يمكن وصفها بأنها هجينة و تعبر عن صبيانية في التعاطي مع هذه الوسائل الحديثة التي كان حريا حسن استعمالها , لكل طالبي العلوم , فطالب العلوم الشرعية و اللغوية قد يجد ضالته في منتديات متخصصة , و محكمة , و أيضا بقية طلاب العلوم الأخرى صارت بين أيديهم كتب قد لا تباع حتى بلدانهم بفضل النسخ الضوئي الذي يمن به المثقفون فيما بينهم , عبر مختلف أقطار العالم العربي . إن العودة إلى الكتاب عودة إلى الأصل , و التهام جميع صفحاته معناه تشكيل جديد لفكر متطور و قادر على مناقشة المواضيع بأساليب علمية رصينة , و بأسلوب عقلاني محكم , أما ما نراه الآن , في الكثير من موائد النقاش , فلجاج و تعالم من فئة عريض يقال عنها إنها لا تقرأ , و لا تعي ما تقول , و دورها استنساخ كلام سمعته منذ سنين , و لم تطوره , والمؤسف أن هذه الفئة تزاحم الفئة المتنورة التي يقول لسان حالها ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله : ما جادلتُ عالمًا إلا غلبته وما جادلتُ جاهلًا إلا غلبني . * باحث في اللسانيات