أطل علينا الروائي عبد القادر الدحمني بإصداره "سرداب النسيان"، رابع أعماله الإبداعية في مجال الرواية، بعد "عطش الليل" 2009 و"أحزان حمان" 2012 و"معزوفة لرقصة حمراء" 2016، رواية من 362 صفحة من القطع المتوسط، صدرت عن مطبعة الخليج العربي 152 شارع الحسن الثاني تطوان، الطبعة الأولى 2024. إن مفردة "السرداب" في المعجم العربي تحيل مباشرة على الظلام والحلكة، حيث لا وجود لنور ولا بوصلة ترشدك في متاهات كثيرة ومعقدة، لكن "سرداب النسيان" له إشراقات تجعل القارئ منجذبا إليه وملتصقا به طمعا في اكتشاف خباياه وأسراره، وبالتالي فقد كانت القراءة الأولى لهذا العمل الإبداعي للروائي المغربي عبد القادر الدحمني كافية لأن أجدني محاصرا بتساؤلات كثيرة تهم غياهب هذا السرداب بداية من العنوان الغامض الزئبقي "سرداب النسيان"؛ فهو وسم ما إن تتوهم الإمساك بمعنى مكونه الأول حتى ينفلت منك معنى مكونه الثاني، فتكتشف بعد ذلك أنك في حضرة سرداب المعنى المظلم، لا ضفاف ولا حدود له، ضبابي الفهم، ضاج باحتمالات تعبيرية لا ملامح واضحة ومحددة لها، فتدرك بعد الصدمة أو الدهشة الأولى أن السرداب والنسيان مفردتان تقدمان معنى زئبقيا يكتنفه انفلات صارخ وصعوبة ضبط وتحديد على مستوى اللغة وعلى مستوى الاصطلاح أيضا. ومن أبرز تجليات هذا الانفلات وصعوبة الضبط والتحديد، أن يجد المتلقي نفسه ملزما أو مضطرا إلى التساؤل حول ماهية النسيان؛ فهل هو ذلك الدخول في حالة من الفقدان الظاهري أو تحوير المعلومات المخزنة في الذاكرة المديدة عند محاولة استرجاعها؟، أو هل هو مجرد طبيعة بشرية تحصل للإنسان رغما عنه؟. في كثير من الأحيان تكون اللغة خادعة ومنفلتة، توهمك أو تغريك بسهولة وسلاسة الإمساك بناصيتها ثم ما تفتأ تكتشف، وأنت تنتشي بهذا الانتصار العابر، خاصة وأنك في خضم قراءة هذا النص الإبداعي، أنك تائه في سرداب دامس ظلامه، لنسيان لا سبيل معه لاسترجاع كل ما مضى وفات إلا بزفرات من الألم مصاحبة لأخرى تتقلب بين أحضان الأمل ومخالب اليأس الحادة. يبدو أن الكاتب الدكتور عبد القادر الدحمني قد امتطى صهوة هذا الخداع الماكر للغة في صياغة عنوان عمله الإبداعي "سرداب النسيان"، وهي الصياغة التي تدفعك كقارىء إلى طرح تساؤل فوري: هل كانت هناك ضرورة ملحة لربط النسيان بالسرداب حتى تكتمل الحبكة السردية ويحضر عنصر التشويق؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل أحداث وشخوص ومكان وزمان هذا السرداب كلها عناصر كان لا بد لها من أن تنبعث من رماد النسيان، تماما كطائر الفنيق، لتحمل معها أوجاعا ووخزات ضمير قمينة بالمحافظة على سردية جاذبة وآسرة للمتلقي بفجائية أسرارها وغموض شخوصها وتنوع أحداثها أيضا؟ وبالصهوة نفسها اختار الكاتب اسم بطل الرواية "المحجوب ولد حادة"؛ ف"المحجوب" يحيلك على معنى التخفي والتواري والتستر، و"حادة" اسم يحيلك أيضا على الصرامة والحدة في التعامل والتواصل مع الآخر. إن الكاتب عبد القادر الدحمني نجح إلى حد بعيد في إشراك القارىء المفترض في تسليط الضوء على آفة خطيرة متمثلة في مصيبة الاغتصاب وما يترتب عنها من مشاكل وويلات إلى حد أن هذا الأخير لا يجد بدا من التعاطف مع المحجوب وأمه حادة، ويلمس من خلال محطات هذا السرداب وفصوله أن آفة الاغتصاب قد تخلق من رحمها آليات دمار لمكونات مجتمع تكون في الغالب تناضل من أجل تقدم ورفاهية الوطن، ولعل ما يعكس التناول الملح لظاهرة الاغتصاب وتبعاته الفتاكة والمميتة هو ما أوجزه الكاتب بداية من الصفحة 69 (ها أنذا يا أمي...) إلى غاية الصفحة 71 (أن أكون معك. لقد أنجزت ما يوازي أفعالك، ولعلي تفوقت عليك قليلا. لا بد أن نلتقي قريبا). إن الكاتب عبد القادر الدحمني كان موفقا في بناء أحداث روايته "سرداب النسيان" من خلال فصول تسعة ووستة وعشرين مشهدا وأوراق ناصر الثمانية، وقد أهله في ذلك تكوينه الأكاديمي؛ فهو حاصل على الدكتوراه في السرديات، ومن ثم فقد توسل في ناصر ذلك الوسيط لبسط ثيمة غاية في الأهمية وهي القراءة، معرفا إياها ب: "إعادة صوغ للنفس وتمرين للوعي وتحيين للمعرفة، إنها مصحة لا بد منها كي نفهم إنسانيتنا أكثر، ونصبح أقدر على الفهم وأصلح للعيش المشترك"، مركزا على المنزلقات الخطيرة لما أسميه "القراءة الأحادية" التي تكرس الرأي الوحيد والأوحد، والتي تجعل صاحبها يعيش في قوقعة وضيق أفق خانق يلغي فيها الرأي الآخر ويتبنى الإقصاء الأعمى لأفكار ومواقف مخالفة، وتجعل صاحبها أيضا ينظر إلى العالم من زاوية واحدة، زاوية تولد لديه فوبيا مرضية تمنعه منعا من مجرد الاطلاع على الرأي الآخر وعلى وجهات نظر مختلفة أوسع وأرحب، وضع مزري لخصه ناصر في ورقته 5 "لم أكن أستطيع إكمال بضع صفحات ليس بسبب تهافت الأفكار أو ضحالتها كما كانت تمثلاتنا حينها عن كل مخالف، ولا لحدة الطروحات والأنساق والمفاهيم ومغايرتها لما ألفته واقتنعت به، ولكن لأنني كنت أخجل أن يضبطني أحد أتحسس كتابا كأنني على وشك الإيمان به والاقتناع بأفكاره... " (ص156). إن توالي أحداث "سرداب النسيان" يجعلك مبدئيا متعاطفا مع البطل تارة وناقما عليه وعلى قناعاته ورؤيته للعالم ولكائنات هذا الأخير تارة ثانية، هذا التضارب في ماهية الموقف، أو هذا الصراع الذي يعيشه القارئ المفترض وهو يحاول فهم شخصية البطل المحجوب الذي يبدو للوهلة الأولى، وهذه إحدى تجليات هذا الصراع، أنه يميل إلى فكرة تعايش الأديان من خلال عملية الحفر التي كلفته جهدا عضليا وفكريا لربط قبر أمه حادة بمقبرة الأب جاك المسيحية، مع أن الرجل عاش حياته المهنية جلادا وجاسوسا لم ينج من قسوته وساديته كل من قادته ظروفه إلى الاعتقال مسلما كان أو ربما مسيحيا، وبالتالي هل كان ذلك تجليا صارخا للانفصام الخطير الذي بات يعيشه المحجوب أم كان مجرد نزوة عابرة لا يلبث أن يستفيق منها، خاصة وأنه "يعرف أنهم نصارى وهي (أمه) مسلمة، لكنهم جميعا موتى، ولم يعد مهما التدقيق في عقائدهم بعد الموت (ص 197). ولكن مع عملية الحفر الثانية نحو فيلا جارته نطالي وعملية التعذيب الوحشي الذي مارسه على حارس الفيلا موحى أوعدي، وتقطيع جثته أجزاء ثم دفنها "كما تقتضي بذلك الشريعة الإسلامية"( ص253)، أكد بما لا يدع مجالا للشك أن الرجل يعيش انفصاما صارخا يشبه تماما المرض العضال المزمن الذي يضع صاحبه في خانة الميؤوس من علاجهم. نقرأ في الصفحة 264: "اتجهت إليه وأمسكت برقبته وأذاقته بعض أطايبها على عجل، ثم استدارت حاملة حقيبتها"، لندرك أن الكاتب عبد القادر الدحمني نجح في تقديم مشهد لحميمية لحظية جمعت بين المحجوب وسعاد بتعبير جميل لا يخدش الحياء وتفوق بذلك على العديد من مبدعينا المغاربة والعرب عموما الذين يمارسون الإخراج السينمائي أو المسرحي والذين يؤلفون نصوصا تحول إلى أفلام أو مسلسلات تلفزية ويدعون أن تقديم مشهد حميمي لا بد فيه من الكثير من الجرأة والشجاعة حتى ولو كان خادشا بالحياء لأن العملية الإبداعية تقتضي ذلك. قد يقول قائل إن كتابة رواية تختلف كثيرا عن إخراج فيلم أو مسلسل أو مسرحية، وبالتالي ما هو متاح للروائي يكاد يكون مستحيلا بالنسبة للمخرج في الحقول الفنية سالفة الذكر، وطبعا هذا كلام العاجزين ومحدودي الإبداع في الأعمال الأدبية والفنية عموما، وإلا فإن المبدع لا يكون مبدعا حقيقيا إلا إذا تفوق في تقديم مشهد حميمي مثلا يكيفية لا تخدش الحياء وفي الآن نفسه تخدم العمل الفني ككل والحبكة السردية بصفة خاصة وتقدم للمتلقي، سواء كان قارئا أو مشاهدا أو حتى مستمعا، مشاهد مختلفة متضمنة لرسائل متعددة. من "المفارقات الإبداعية" التي بسطتها رواية "سرداب النسيان" أن البداية كانت "قصاصا" مبتورا والنهاية كانت إصرارا على مواجهة بشاعة الواقع وجبروته، حيث استفاق المحجوب من هول قصاص كان مجرد كابوس وتنفس الصعداء، وأدركت سعاد في النهاية أنه لا مناص للإنسان من مواجهة البشاعة والتعذيب والقهر بالإصرار على مواصلة المشوار في بيئة مليئة بالأشواك والألغام. ومن إشراقات السرد الإبداعي للكاتب عبد القادر الدحمني، نكتشف في نهاية الرواية وفي حفل التوقيع (ص354)، وبعد التفاعل مع تنوع إيقاعات السرداب صعودا ونزولا، تداخلا جميلا على شكل تناص بين النص الأصلي "سرداب النسيان" المقروء طبعا والموجود بالفعل لصاحبه عبد القادر الدحمني، وبين "سرداب النسيان" الذي ألفته سعاد وهي من شخوص الرواية والبطلة بعد المحجوب، وهو نص غير متاح ولا يشبه النص الأصلي بالطبع، وهذه نهاية غير متوقعة، ولعل هذا مؤشر على تمكن الكاتب من عملية السرد والحبكة، إذ لا يمكن اعتبار العمل الروائي إبداعا ناجحا إذا لم يتخلله عنصر التشويق الذي هو إحدى لبنات الحبكة السردية الناجحة التي تزيد العمل الإبداعي جاذبية من شأنها أن تشد القارئ المفترض وتدفعه إلى مواصلة القراءة بشغف ومتعة، وتبعد إمكانية اكتشافه لمآل النهايات مباشرة بعد قراءته للبدايات. بقي أن أشير إلى ملاحظة أراها أساسية، تتمثل في كتاباتنا التي تكون بقصد أو بغيره سببا قي إصابة جمالية لغة الضاد في مقتل، وأنا هنا لا أستثني نفسي طبعا، فأن نكتب مثلا: "كم كان سيكون رائعا لو يحب سعاد وتكون له..." (ص:225) هذا تعبير يبدو أنه مكتوب بلغة عربية فصحى ولكن مفكرا فيه بلسان دارج مغربي، وهذا يحدث أيضا في صياغات كثيرة لجمل مكتوبة بلغة عربية فصحى ولكن مفكرا فيها بلغة أخرى من قبيل: "جد مسرور" التي يقابلها التعبير الفرنسي: "très content"، تعبير كهذا أعتبره خدشا غائرا للغة العربية الفصحى الجميلة الجذابة الآسرة، وطبعا فعل الخدش هذا، سواء كان مقصودا أو غير مقصود، يرد كثيرا في أعمال إبداعية قد تكون نثرا أو شعرا، وهو تعبير لا يمت للغة العربية بصلة لا من قريب ولا من بعيد، وهو تعبير لن تجد له حيزا في نتاجات السلف من مفكرين وأدباء عرب على شاكلة عبد الله الطيب، والطيب تيزيني، وعابد الجابري، ومحمد السرغيني، والطيب صالح، ومحمود درويش، وسميح القاسم والقائمة طويلة. "كان سيكون" هو تعبير يرد أيضا بكثرة في كتابات وخطابات كثيرة أدبية وصحفية، وهو أمر إن كان يدل على شيء فإنما يدل على انحسارنا في أحايين كثيرة في دائرة الأساليب الجاهزة والمقولبة نستمدها من ترجمتنا الحرفية للغات أجنبية، ونسيء بقصد أو بغيره إلى اللغة العربية الفصحى. هذه بعض الومضات التي أملتها قراءتي لرواية "سرداب النسيان" قد تكون ذات فائدة كما قد تكون مجانبة للصواب أيضا، وإلا فالعمل الإبداعي "سرداب النسيان"، للكاتب عبد القادر الدحمني يستحق القراءة، على اعتبار أنه يجعلك كقارئ تستمتع بلغة جميلة، وببسط موفق إلى حد كبير لقضايا آنية لا تنال حقها من الاهتمام إعلاميا وحقوقيا.