أصدر الناقد والروائي صدوق نورالدين، نصا إبداعيا ثالثا يحمل عنوان «مريض الرواية: عثمان يقرأ رواية الروايات»، ويلاحظ القارئ في هذا العمل الجديد اختفاء اسم صدوق نورالدين من المتن الحكائي باستثناء ورود الاسم على صفحة الغلاف، فقد دأب صدوق على إقحام اسمه في نصه الأول «الكوندليني» وكذلك في النص الثاني «الروائي» بقصد تكسير النمط التقليدي للحكي، لكن في هذا العمل السردي الثالث فالأمر مختلف، حيث عمد إلى اختلاق اسم مستعار وهو عثمان ليحل محل صدوق في تسيير دفة الحكي. عثمان هو الذي سيحكي فصولا من سيرة صدوق عبر ثلاثة أسفار مما يدل على أن هذا الأخير قد قصد إلى ذلك بهدف كتابة تخييل ذاتي يجمع بين السيرة الذاتية والرواية. صحيح أن هذا الجنس الأدبي الجديد لازال يتلمس طريقه على يد بعض المبدعين المغاربة من أمثال محمد برادة وعبد القادر الشاوي الذين يشتغلون على الموضوع إبداعا وتنظيرا. لقد حول المؤلف أجزاء من سيرته الذاتية إلى تخييل سردي عبر توظيف مقاطع استرجاعية من حياته، تعبر عن الفترة التي قضاها كتلميذ بثانوية ابن خلدون بالجديدة وكمقيم بقسمها الداخلي. ويجمع الكثير من الباحثين بأن التخييل الذاتي يجمع بين السرد الروائي وبين السيرة الذاتية، مع السعي إلى إضفاء التخييلي على الواقعي (محمد الداهي ص 160). بالإضافة إلى ذلك فهي كتابة تستفز القارئ وتربكه بهذا المزج بين جنسين يختلفان من حيث التعريف والتعاقد. ومن هذا المنطلق يمكن تسجيل بعض المؤشرات الدالة في النص على إمكانية الحديث عن هذا النوع الجديد في الكتابة السردية المعاصرة، والتي لم يمرعلى ظهوره في فرنسا أكثر من أربعين سنة مع ظهور نص «أبناء» لسيرج دوبروفسكي سنة 1970. صحيح كذلك أن المؤلف وفي إطار الميثاق الروائي قد أعلن عن تجنيس نصه ضمن خانة الرواية، وهو ما يحق احترامه، لكن يبدو أن هذا النوع من التنصيص يدخل في إطار تضليل القارئ وإيهامه بأنه بصدد قراءة نص تخييلي صرف في حين أن منطوق الأسفار الثلاثة التي يتكون منها هذا النص، تبوح بأشياء كثيرة لا يمكن إخفاؤها. وفي نفس الوقت نجد انزياحا عن الكتابة السير ذاتية وذلك بانتقاء مقاطع وتحويلها إلى ممارسات تخيلية، بالإضافة إلى تكسير البعد الكرونولوجي مستعينا بما يسمى بالسرد الاسترجاعي، حيث تميزت المقاطع المنتقاة بحركة الذهاب والإياب بين سنوات 1979/1975 وهي السنوات التي قضاها المؤلف تلميذا بالمؤسسة المذكورة وكذلك بين سنوات 2000 و2004 حيث بدأ صدوق يفكر وينفذ قراره بكتابة هذا النص وغيره من النصوص الإبداعية، بعدما ساهم ولايزال في إغناء الساحة النقدية المغربية والعربية بالكثير من الدراسات النقدية. إن عالم الرواية هو عالم متسع وقابل للتشكل والتجريب، واستيعاب أشكال تعبيرية قريبة مثل السيرة والسيرة الذاتية واليوميات والمذكرات، مما يجعل الرواية أكثر قابلية لهذا التشكل باعتبارها تمتلك إمكانيات متعددة تتيح للكاتب هوامش كبيرة للحرية في التعبير عن تجاربه الذاتية في الحياة والمجتمع، وهذا ما يجعله متوفرا على قدرة أكبر على التقاط تفاصيل الحياة الإنسانية وتسجيل العمق الثقافي والاجتماعي المترسب في الذاكرة، والمتخيل الفردي والجماعي. في السفر الأول المعنون ب: «مقهى الروايال»، يستعمل المؤلف المقهى كفضاء لاستعادة الزمن الماضي عندما كان تلميذا بثانوية ابن خلدون ومقيما في القسم الداخلي وكان هو وصديقه الأزعر يسرقان بعض اللحظات لشرب القهوة والاستمتاع بحركة المدينة «هروبا من شبح الحارس العام بقامته القصيرة وأناقته الرفيعة» (ص: 13). على مدى ثلاثة وأربعين صفحة يعيش القارئ متعة الكشف عن تلك الذات المريضة بالقراءة والتي تحتمي الأسماء الكبيرة في عالم الفكر والإبداع».. يفتح كتاب الخيال منصتا لإيقاع المعنى متأملا صناعة الكتابة» (ص: 13).. وهي في نفس الوقت رحلة للكشف عن تلك النصوص القوية التي لاتزال ترن على إيقاع التاريخ الإنساني ، فتجد زوربا ينهض ليحيي رقصته من جديد في ربوع مازاغان وعلى إيقاع البحر وجمود المدينة العتيقة.. وفي مقهى الروايال تطل أغاتا كرستوف من خلال نصها الباذخ «أمس» ويحضر ستيفن زفايج وهو «يمارس مهارة لاعب الشطرنج نظير مقابل مادي» (ص: 42).. المقهى شاهد بدوره على تاريخ المدينة «لم تكن الرويال مقهى في الأصل- يقول المليونير الحزين - وإنما محلى أداره مسيو فيليب مادام في ملكية زوجته المنحدرة من أصل يهودي حيث كان أبوها بريطانيا..» (ص 25/24).. من ثم، تتداخل حكاية المقهى مع حكايات أخرى من خلال الاستعانة بذكريات صاحب المقهى الحالي عبد الكريم، الذي يرد ذكره باسمه لاستعادة جزء من تاريخ المدينة. وحكاية المليونير الحزين الذي يقتل الوقت في المقهى بانتظار الفرص القادمة وهو يمسك بخيوط المدينة وأسرارها الداخلية من خلال جولاته الصباحية وزياراته للأمكنة الاعتيادية بحثا عن الرزق، ولا تفوته الفرصة عندما تصادفه الرغبة في إحدى الزوايا السرية بالمدينة. إن برنامج عثمان هو أن يرتب ذاكرته وأشياء العالم، وفق مايقرأه فهو مثلا عندما كان تلميذا يحتاج لتمضية الصيف إلى ثلاثة روايات لنجيب محفوظ عملا بنصيحة أستاذ اللغة العربية بالثانوية وهي: «حضرة المحترم» و»خان الخليلي» و»ميرامار».. وهذا في حد ذاته حضور قوي لمؤسس الرواية العربية الحديثة في تكوين المؤلف، وفي نفس الوقت حضور نجيب محفوظ إلى جانب هاته الأسماء الكبرى الذي أثثت المشهد السردي على المستوى العالمي. في السفر الثاني المعنون ب «مريض الرواية» يواصل السارد/المؤلف لعبة السرد عبر حكايات صغيرة موازية كل واحدة تفضي إلى الأخرى، لكن محورها واحد حكاية عثمان وهو يفض المظروف الذي عثر عليه في إحدى مقطورات القطار القادم من الدارالبيضاء إلى مازاغان. يبدأ السفر برسالة من عثمان إلى «س» وهي الموظفة التي تعرف عليها بالإدارة التي لجأ إليها من أجل الحصول على وثيقة يريد توظيفها في روايته القادمة. فيجد «س» قارئة شغوفة بالرواية فتصبح القراءة وسيلة لربط علاقة حميمة مع «س» التي استلمت ناصية السرد بدورها لتحكي قصة مجيئها إلى هذه المدينة الصغيرة، للعمل بهذه الإدارة، وتقودنا الوثيقة إلى حكاية التاجر دانيال الذي رست به إحدى السفن بميناء البيضاء رفقة زوجته ليليان حيث انخرطا في الحياة الاجتماعية بالمدينة الصغيرة، ورزقا بالولد جاكوب الذي أصبح وارث أبيه الذي فقد في حادثة قصف إحدى الطائرات التي كان يركبها. جاكوب فاجأ الجميع بإنشائه لمكتبة بالمدينة، بعدما أنهى دراسته وأطلق عليها اسم «أساطير العالم» حيث تدخل بدورها على الخط لتصبح فضاء آخر للقراءة، والاحتفال بالنصوص الإبداعية الكبرى التي تشفي الغليل وتحارب النسيان وثقوب الذاكرة التي يحتاجه عثمان من أجل كتابة مقاطع من سيرته، ويسمر بالتالي في اللعب أمام أعين قارئه المفترض. في السفر الثالث المعنون ب «الملحق الشارح» يبلغ اللعب السردي أوجه عندما يخاطب صاحب المظروف المجهول عثمان متحدثا عن القارئ الافتراضي، الذي ترك له الرسالة ويبدأ بالحديث عن مغزى أن يكتب الإنسان رواية وهو مايطرح مسألة الكتابة عموما والكتابة الروائية على الخصوص، الشيء الذي حول هذا الملحق إلى ميتارواية أراد من خلالها المؤلف أن يمرر للقارئ مواقفه وتصوراته حول الكتابة والتلقي، حيث يبرز هنا المؤلف الناقد الذي يكتب نصه بوعي نظري يسعى من خلاله إلى توضيح الدور الذي يلعبه الجانب الفني في الكتابة الروائية، وذلك من خلال مقاطع استرجاعية أخرى من الحكايات التي دونها السارد على مدار النص قبل أن ينهي قراءة المشاهد ويقرر إنهاء المخطوطة التي ذابت في لغة النص الشعرية كما يذوب عكاز الحلوى في يد الأطفال بعدما يستمعون إلى حكاية الجدات. خلاصة القول هو أن هذا النص حقق الكثير من خصائص التخييل الذاتي عندما مزج بين الرواية بما تتيحه من حرية مطلقة في بناء الأحداث والشخصيات والفضاء، وبين السيرة الذاتية التي استمد منها محورية الذات كمرجع حي وواقعي واستعادة أجزاء من الماضي وتأويله حسب المعطيات الراهنة. إن «مريض الرواية»، سيرة ذاتية تمردت على نوعها في تعاقد مضلل مع المتلقي الذي من حقه أن يسعى إلى اكتناه مكنونات النص عبر قراءة تشخيصية، تسعى إلى الكشف عن البياضات والفراغات وكل ما هو مسكوت عنه.