للكلمة معنى وللكتابة مغزى للإبداع صوت لا يسكته أو بالأحرى لا يضاهيه إلا صوت مبدع مماثل وبين هذا وذاك هناك ابتداع. كم هي الكتابات التي نقرأها بين الفينة والأخرى والتي لا تجد في ذواتنا احتراما كبيرا وانسجاما مثيرا مع خليلة النفس المذواقة. "" للإبداع نكهته الخاصة وأصدقاءه المخلصين ومهما حاول الفرد أن يعطي لعمله تلك اللمسات الإبداعية فان ذلك غالبا ما ينجح لان روح الإبداع صادقة وخلاقة أولا وكل محاولة لتلميع الإبداع بشيء ليس فيه فهو مردود على صاحبه. فالصوت الذي ينبع من داخل الأنا التي تنشد التجديد وتتغنى بالجديد لا تذوب أمام المصطنع من الكلام والمصبوغ من اللسان. للإبداع صوت وصوته كلمة ذات معنى والتي تنتهي في مجلدات يصنفها التاريخ ويطلع عليها الخلف في أعمال تسمى بالكتابة. إنها مقياس الإبداع وحافظه ومؤرخه. في الفكر والفلسفة والأدب كما في الفن والموسيقى العلوم هناك مقياس لدرجة التجديد والتحديث ومسايرة طبيعة الفكر الإنساني ومتطلباته. فكلما تطور هذا الفكر إلا وتطور معه نمط الحياة الذي تلحظه العين في كل مجالات الحياة. ولذلك تبقى الكتابة كمؤرخ لهذا التشدق للتطور والتجديد، آو كدليل على حقبة معينة من الانكسار والانتكاس والاستعمار والضعف – وذاك حال أمتنا منذ أن مات فيها روح الاجتهاد والإبداع. كيف لها أن تبدع وعدد كبير من ساكنتها لا تفقه القراءة والكتابة، كيف لهذه الأمة العليلة أن تبدع ومن يفقه الكتابة والقراءة من بني جلدتها لا يقرؤون ولا يكتبون وان كتبوا إما ينفرون من التراث وإما يجحدون به ويدعون إلى التجديد والتحديث على شاكلة من ليسوا من ثقافتنا. في عصر خطى فيه الغرب ما لن نستطع خطوه ولا حتى استيعابه والاستفادة منه، تجدنا ما نزال نتلعثم في كلامنا ومصطلحاتنا وسياساتنا التي لم تجد لها طريقا بعد. والكل مرده إلى ملكة الإبداع عندنا، ملكة حاضرة-غائبة، حاضرة عند من يحمل هم الأمة ويعمل من أجل إعادة البناء وخائبة عند أصحاب الأبهة الذين يرون في الإبداع هدما لمناصبهم التي لم يدخروا جهدا في صقل أشكالها، سواء كانوا رجال سياسة آو رجال العلم ولكن بعلم منحرف غير نافع لان منبعه غير منبع العامة. لا أحد ينكر أن مجهودات كثيرة تبذل من قبل أفراد وجماعات هنا وهناك، ولكن غياب مصاصة لكل هذه المحاولات ما يزال ينقص من شانها مما يؤدي في أحيان كثيرة إلى أن ينفر حتى صاحبها منها لأنها لم تجد أرضية مناسبة لكي تنتقل من فكرة إلى شيء ملموس. فالساحة عندنا ما تزال ملغومة بكل شيء ما عدا الإبداع والفكر والكتابة. إن أكبر معيق قد يقتل الإبداع يكمن في أمرين أساسين على الأقل، أولهما استشكال القديم وصبغه بالحديث المختلف ثقافيا بحيث لا يأخذ حالة المجتمع في إبداعه، وكل إنتاج من هذا النوع نهايته النفور والضمور، وثاني الأمرين هو الطريقة التي يعبر بها عن هذا الإبداع. إن كل محاولة للإتيان بالجديد تتطلب بعد نظر –وهو أكثر ما يغيب عندنا- وتمحيص. هنا نرى دور الكتابة. يجب أن نكتب أفكارنا. كل فكرة كتبت إلا وكبرت عند صاحبها وتشعبت ونضجت. ففي الأمر تدوين أولا وأرشفة لتطور الفكر، وفي العملية كذلك مسح وتنقية لمسالك الأفكار. فكل عودة لفكرة مكتوبة إلا وأعطت لصاحبها بعدا جديدا ومساحة أوسع لبناء فكرة أكثر جدية وحداثة، وأقل غموضا. زائر أرشيفه كزائر أرشيف غيره. إن إعادة قراءة أفكارك بعد كتابتها يعطيك اليقين إما في صحتها آو خطاها، في حداثتها آو قدمها. فهي ممارسة فكرية تنم عن مهنية في التفكير وفي بناء نسق للأفكار بعيدا عن التكرار والتقليد. إن الإبداع ليس بذاك الأمر الهين ولا هو بالمستحيل. انه نتاج تفكير مستمر، متعمق وطويل، مساره شاق وجميل، وأول خصاله الشجاعة وروح المبادرة... الشجاعة. الإبداع، لا الابتداع. الصوت، لا الصمت. الإبداع يصنع، لا يولد، وبالكتابة يمحص ويخلد، فيبنى الحاضر والمستقبل. *كاتب مغربي مقيم في روما