عار لم ينطفئ وناره تستعر تحت الهشيم، لتشتعل من جديد، وتظهر في شكل آخر كالعنقاء المنبعثة من الرماد، ليضعنا أمام الأمر الواقع، ويفرض علينا حمل الحجرة من جديد كما فعل "سيزيف" من قبلنا. عار فاحت رائحته من أحد دكاكين زاوية الشيخ بإقليم بني ملال، بعد أن امتلأ بغائط وبول ونفايات أخوين مُسِنَّين، محند وعلي، في الثمانينيات من عمرهما، كان أحدهما يتكفل بالثاني بعد أن خارت قوى أكبرهما سنا، لكن شاءت الظروف أن تفعل بالثاني ما فعلته بالأول، ليصبحا طريحيْ الفراش دون معيل ولا كفيل، في غفلة من الجيران حتى فاحت رائحتهما، وفرضت حالتهما على المارة الانتباه حتى والباب مغلق. السكان تداركوا الأمر، وفتحوا الباب، ليجدوا جسمين بل روحين متوازيين جنبا إلى جنب، خارت قواهما، ونحل جسدهما، وانعدمت قدرتهما بشكل كلي، ليُخدش معهما شرفنا وعزتنا وهمتنا، ويظهر معهما العار الحقيقي الذي خُيل لنا أنه حورب من قبل. امحند وعلي أخوان، كانا يرتزقان من بيع أعشاب الغابة لسكان زاوية الشيخ، والقضاء على الأشواك من حقول آيت أم البخث، وتطويع أراضي الملاكين والميسورين لأكثر من 40 سنة. مجدان متعففان عُرفا بعزة نفس لا توصف، حيث لم يسبق لهما أن مدا أيديهما أو توسلا، أو طلبا مساعدة من أحد باعتراف الجميع، حتى الأيام الأخيرة حين خيبت سواعدهما آمالهما، وأصبحت غير قادرة على حمل معيلهم الوحيد، ورفيقهم الأزلي "الفأس". عند زيارتنا للمُسِنّين، فاجأنا امحند بسؤاله المحير، عندما سأل بصوت مترهل نظرا لضعف سمعه، وبلغته الأمازيغية ونبرته الحنينة التي غدر الزمان بها " مني اكنزيم، كح... كح مني اكنزيم ؟. " فيما معناه أين الفأس؟.. الفأس الشيء الوحيد الذي تمسك به امحند وبقي بباله من كل ما وجد معهما. الفأس الأداة الوحيدة التي لم تلطخ بنرجسيتنا، الفأس عربون كدهما وجهدهما، الفأس علامة على أداء واجبهما الوطني وعدم تخاذلهما، الفأس رمز رجولتهما وعطائهما، الفأس الوحيد الذي بقي وفيا لهما، وأكبر شهادة اعتراف على خدمتهما لهذا الوطن الذي أدار وجهه لهما، وتنكر لتضحياتهما حين فضلا إعفاءنا من الأعمال الشاقة في الحقول والأودية والفيافي، ليتركا لنا المناصب والمكاتب المكيفة والصالونات الفخمة وقبب البرلمانات المنمقة والرواتب العالية والتعويضات الخيالية. فكم نحن أنانيون، وكم أنت جاحد يا وطني.. *فاعل جمعوي بزاوية الشيخ [email protected]