أما بعد سلام تام للبرلمانيين الكرام يشرفني أن ألتمس من حضراتكم قبول نصيحتي المتواضعة، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على عظيم الانجازات التي حققتموها لنا كمغاربة والتي أصبحنا بموجبها نعيش في "أحسن بلد في العالم". والفضل أولا وأخيرا يعود إلى جميل غيابكم عن قضايا أمتنا، ثم إلى اهتماماتكم المتفانية في قضاء مآربكم الشخصية. وكي لا أطيل في التقديم، هذه نصيحتي: منذ افتتاح الدورة "التشريعية" ونحن نتفرج على كائنات متشابه مظهرها، أبيض لباسها، براق وجهها، مقوس ظهرها، ليس عليها أثر الحياء، ولا يثق بها أحد من الأحياء، تنحني أمام صنم كبير بكامل الإجلال والتبجيل. في ذلك اليوم المشهود يكون البرلمان كعلبة من الطباشير الأبيض المصفى، إخوانا (وأخوات) على سرر متلاصقين، جيء بكم من كل حدب وصوب، هذا هو يوم العيد والحج الأكبر: الحج افتتاح البرلمان. وما عليكم إن غبتم طيلة الفصول لا عن الجلسات "العمومية" ولا عن عمل اللجن، ولا عن قضايا شعب يعيش تحت الوصاية منذ سنين، لأن غيابكم مبرر، ومن يثق في حضوركم مُغَرَّر، والغائب بحُجَّته كالحاضر بحَجََّته. فالبسوا أحسن الثياب وأحسنها البيضاء الشديدة البياض، سواء منها الداخلية أو الخارجية، الكاشفة أو الواصفة، وعليكم بتجويد الركوع وإتمام الخنوع و قولوا في ركوعكم: نحن عبيد بنو عبيد، وإماء بنات إماء، ألف مرة أو يزيد، ومن زاد في الذل زيد له في القرب. لا نملك سلطة ولا قوة ولا برنامجا ولا إرادة، جئناك طائعين خاشعين ساجدين راكعين، خائفين طامعين. واغتنموا فرصة السجود فهي اللحظة التي يكون فيها العبد قريبا من مولاه واطلبوا حاجتكم ولتكن أول حاجتكم هي الترسيم في البرلمان وتمثين المعاش والتعويضات للأصهار والأنصار والأولاد. أما نحن فأكثروا علينا من الأسئلة فكم نحن في حاجة إلى من يسأل ولا عليكم في الأجوبة لأن الجواب الصحيح هو الله أعلم. كلفة الأسئلة إن سياسة طرح أكبر عدد من الأسئلة التي تتبجح بها بعض الأحزاب المدجنة لهي سياسة صبيانية واستغفالية، تضحك على أمة عريضة أعياها الانتظار. والسؤال لا يحتاج إلى البرلمان، ثم وإن كان السؤال لا بد فأين العمل؟ ناهيك عن أن ممارسة السؤال من الفلسفة وليست من السياسة. وشتان بين ممارسة الفلسفة وممارسة السياسة. تيرعوا في سياراتكم الفاخرة، وأجوركم المريحة، وامتيازاتكم الواسعة، ومعاشكم الكريم، فالشعب المسكين باختياره عدم التسجيل في الانتخابات يكون قد خول لكم تلقائيا أن تعيثوا فسادا في جزء من خُبز أبنائه. أما أبناء خنيفرة فلم يجدوا حتى "الفاخر" لتدفئة عظام أطفالهم الذين يموتون بالبرد أمام أعين الجميع، ولا عليكم أن تتحدثوا عن حقوقنا حتى يأذن لكم كبيركم الذي علمكم الصمت. والصمت حكمة. كم تكلفوننا بلا فائدة. " - تكلفة الولاية التشريعية : 200 مليار سنتيم! - تكلفة سنة واحدة : 40 مليار سنتيم! - تكلفة شهر : 3.4 مليار سنتيم! وبذلك يكلف البرلمان المواطنين المغاربة 12 مليون سنتيم في اليوم الواحد! ويكلف كل مغربي 1300 درهم! وهذه كلفة سنوية يمكنها خلق أكثر من 130 ألف منصب شغل! باعتماد راتب شهري يقدر ب 3000 درهم شهريا!" (1). وإذا كان البرلمان سلطة تشريعية في التعريف، مخزنية في الممارسة، فلا بأس أن تكونوا برلمانيين في بطاقة التعريف ومخزنيين في الممارسة والتصريف، فهذا من صميم ما جئتم من أجله هذا الخريف. برلمانكم الموقر ضريح للجدبة وأحيانا لتبادل السباب الساقط الذي يفضح المعادن ويكشف العورات. وهو لا يغير ولا يؤسس ولا يعارض ولا ينظم إلا الخواء الخاوي إن سمح له بذلك أو ضغط الآخرون من هنالك. والاستثناء لا يقاس عليه. "نواب" يتقنون ممارسة الهَدْرُولوجْيا؛ الكلام من أجل الكلام، والتعليق على الكلام، والتعليق على التعليق، ثم التصفيق. في المغرب شبكة فسادٍ معقدة تلفُُّكم ببرلمانكم، وقد صرحوا لكم أن البرلمان مجرد "سيرك"، ومعلوم أن ما يملأ السيرك هو الخدعة و البهلوان. تواطؤ مريب ومسألة أخرى لا يمكن أن يغفرها لكم الزمن، لماذا سكتم سكوت الصم البكم عن الظلم المسلط على جماعة العدل والإحسان؟ ألا تهمكم ملايين المغاربة الذين اختاروا بمحض إرادتهم أن ينتظموا داخل هذه الجماعة السلمية التي اصطفت مع المستضعفين؟ أين الدفاع عن حقوق الانسان كإنسان؟ بينما اختير لكم أنتم أن ترقصوا في حِجر حامل السيف؟ لماذا سكتم عن المنع الأخرق المتكرر للدكتور المهدي المنجرة من التواصل مع أبناء بلده في الوقت الذي ملأتم فيه شاشاتنا بكلامكم المقرف الذي مَلَّته الآذان؟ أنتم في واد والشعب في واد، عزلتم الشعب فعزلكم. قال الدكتورعبد العالي مجدوب: "إن السكوت عن مناقشة مشاكلنا السياسية والحقوقية في جوهر معدنها هو مسؤولية كبرى يتحمل وزرها، اليوم وغدا، أولئك الذين يتنافسون في إثارة موضوعات ثانوية تزكي الداء العضال المتحكم فينا وتثبته في مختلف شرايين حياتنا. يا من يستنزفون طاقاتهم، في البرلمان، في التداول حول الأعراض والقشور، هلاّ شرحتم لنا، مثلا، معنى نص الدستور على قداسة الملك، وهذا الملك، في الوقت نفسه، يحكم، أي يفكر، ويدبّر، ويقرر، ويسيّر، ويأمر، ويجتهد، ويصيب، ويخطئ، ويتوهم، ويتردد، ...إلخ ما يلازم من يمارس الحكم من مشاعر وانفعالات؟ كيف تفسرون لنا، أيها اللائذون بظل الهوامش والجزئيات، أن الملك، الذي يسود ويحكم وينفذ، والذي يملك جميع السلطات، هو، في الوقت نفسه، فوق كل المؤسسات، لا يُحاسَب ولا يُراقَبُ، ولا يُنتقَد، ولا يُردُّ كلامه، بل ولا يُنصَحُ؛ فقد رأينا القيامة المخزنية التي قامت حينما كتب الأستاذ عبد السلام ياسين مذكرته المشهورة ينصح فيها من يهمه الأمر، ويدعو، بأدب العلماء المسؤولين ورِفْقِ الناصحين المشفقين، إلى التوبة وردّ المظالم وهجر حياة الترف والغرور. قامت قيامتهم، لأن الملك، في عرفهم الفاسد، وفي قوانينهم الجبرية، وفي هوائهم الملوث الذي يستنشقونه منذ قرون، هو أكبر وأعظم وأشرف من أن يخاطب على أنه بشر، يصيب ويخطئ، وأنه مخلوق ضعيف كسائر المخلوقات، مصيره الموت ثم البعث والحشر والحساب. قولوا لنا ماذا يبقى من برامج الأحزاب التي تتنافس في الانتخابات، والكل يعلم- والبرلمانيون في مقدمة هذا الكل- أن البرنامج الوحيد الذي ينفذ دائما، قبل الانتخابات وبعدها، هو البرنامج الذي يمليه الملك. أما الحكومة، بجميع وزرائها، فهي عون تنفيذي تجتهد فيما يسمح به للأعوان من هوامش، لا أقل ولا أكثر". هوامش (1) أسبوعية المشعل، 26 ماي 2007 (2) من مقاله المشهور بعنوان "مقمعة المقدسات" ""