يقدم عبد الله لعماري، القيادي السابق في تنظيم الشبيبة الإسلامية، والحالي في حزب النهضة والفضيلة، من خلال هذا المقال الذي خص به هسبريس، معطيات تبدو غير معلومة عند الكثيرين، خاصة فيما يتعلق بالدور البارز الذي قال لعماري إن الشيخ عبد الكريم مطيع، زعيم حركة الشبيبة الإسلامية، لعبه بجدارة في تحصين وحدة البلاد من التشيع الإيراني. وأفاد لعماري بأن مطيع انتبه باكرا إلى خطورة الغزو المذهبي الشيعي للمغرب، حيث حرص على أن تحافظ البلاد على كنزها الثمين المتمثل في الوحدة المذهبية السنية المالكية"، لافتا إلى واقعة "انشقاق" الشيخ عبد الحميد أبو النعيم الذي أثار أخيرا ضجة عارمة في البلاد عن الشبيبة الإسلامية، حيث استبدل الخيار الفكري للحركة بخيار المنهج السلفي. وفيما يلي نص مقال عبد الله لعماري كما ورد إلى هسبريس: عندما حمى الشيخ مطيع المغرب من التشيع الإيراني: انشقاق أبو النعيم في الفترة ما قبل انتصار الثورة الإيرانية، شملت العالم الإسلامي والعربي حالة فريدة من الانفراز والتمايز، ففيما كانت الشعوب بكل فئاتها وتياراتها السياسية والأيديولوجية، تشرئب بأعناقها متشوقة إلى يوم النصر، وقد ذوبت خلافاتها فيما بينها، وتوحدت حول موقف التأييد، كانت الأنظمة الحاكمة، وعلى النقيض من ذلك، تتوجس كل الشرور، وتستشعر كل الهواجس والكوابيس. ففي المغرب، سادت هدنة إيديولوجية بين الفرقاء الإيديولوجيين، فأصبح الإسلامي واليساري الماركسي، واليساري الاتحادي، في وفاق تام حول التعاطف مع انتصار الثورة، وأمنية سقوط نظام الشاه، وأصبح الجميع يتأبط جريدة المحرر يوميا لحزب الإتحاد الاشتراكي، متحلقين في تواد وتصالح وتصافح حول الصفحتين المسودتين بالبنط العريض "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" والتي كانت تنقل أولا بأول، وقائع الثورة وخلفياتها، لا ليس هذا فحسب، بل كانت تتماهى مع دور التهييج والتحريض والإبتهاج ، وكأنها توجه رسالة ما أو تنتهج ضغطا ما. وعند انتصار الثورة، وعودة الخميني مظفرا وسط استقبال جماهيري بالملايين، غير مسبوق في التاريخ، ابتهجت الشعوب في نشوة عارمة، لا تبقي على أي تحفظ، بينما زاغت أبصار الحاكمين، وبلغت قلوبهم الحناجر، وتاه بعضهم بلا نوم ليالي متوالية ، كما حكت بعض مذكرات البلاطات. ووسط أمواج هذه العواطف الهائجة، استمع الشيخ مطيع زعيم حركة الشبيبة الإسلامية لنداء العقل، وخطاب التاريخ، ووقع استشراف واستباق المستقبل، فالشعوب تنساق مع دين الغالب وعقائده، كما نظر لذلك عالم الاجتماع الإسلامي : ابن خلدون ، وعقيدة التغلب الإيراني هو المذهب الشيعي الجعفري الإثنى عشري. وكان قلب الشيخ مطيع مشفقا على الكنز الثمين الذي حبى الله به بلاد المغرب متمثلا في الوحدة المذهبية السنية المالكية، بينما غيرها من بلاد المسلمين يتآكلها التشرذم بين الملل والنحل والأعراق. وكان يعلم أن تنظيم الشبيبة الإسلامية الغارق في فكر وأدبيات الحركة الإسلامية والمتبحر في نصوص "معالم في الطريق" ، و"في ظلال القرآن" للمفكر الإسلامي السيد قطب، كان يتخبط في فقر نظري من حيث معرفة فصول التاريخ الإسلامي، وأصول المذاهب وصراعاتها، وعقائد السلف الصالح، ومنهج أهل السنة والجماعة، فأصدر الشيخ مطيع توجيهاته إلى تنظيم الشبيبة الإسلامية الفوار حماسة لما وقع في إيران، بأن تدرج كتب علماء وأئمة السلف الصالح في البرنامج التثقيفي للأعضاء، إذ فرضت إلزامية افتتاح الجلسات التربوية بدروس من كتاب العقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي، والمسماة عند جمهور علماء السنة، ببيان اعتقاد "أهل السنة والجماعة" ، وتعزز التثقيف التنظيمي بدروس من مؤلفات ابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن الجوزي. وفرض الشيخ مطيع إلزامية انضباط قيادة التنظيم للمجالسة الأسبوعية مع الشيخ محمد زحل كمرشد تربوي، وحضور كبار رفاق مطيع من المؤسسين الأوائل : "المرحوم علال العمراني" و "المرحوم عبد اللطيف عدنان"، إذ كان الشيخ زحل قد أصبح من العلماء المتضلعين في العلوم الشرعية بتثقيف عصامي شخصي، و كانت قيادة التنظيم طلابية مؤلفة من 16 مسؤولا قياديا أبرزهم : "محمد بيرواين" المحامي حاليا ، و"محمد الصنيبي" ، و "بلقاسم لبيض" المقيم حاليا في بلجيكا ، و"عبد الحميد أبو النعيم" الرجل الذي أصبح أشهر من نار على علم ، و"عبد اللطيف بكار" ، و المرحوم "عبد الحميد الغدان". وانفسح المجال لأفراد التنظيم المغلق لحضور الدروس العامة المسجدية التي كان يلقيها، الشيخ "تقي الدين الهلالي" ، و"الشيخ أبو بكر الجزائري"، وهما من أبرز رموز الدعوة السلفية في البلاد العربية بعد أن كان التنظيم يمنع التلقي الفكري من خارج الحركة، حفاظا على سرية العمل ، وتوخيا لوحدة المنبع والتوجيه، واعتبارا للموقف من جمهور المحدثين والوعاظ والعلماء، كونهم مجرد وعاظ سلاطين، وأدوات دعائية، وموظفي دولة مأجورين!!. وأعطى الشيخ مطيع تعليماته لقيادة التنظيم كي تبتعث وفودا تلاميذية وطلابية للتسجيل الدراسي في جامعات المملكة السعودية للتخرج بشهادات العلوم الشرعية، برزت من بينهم أسماء:"عزالدين العلام" ، نائب الأمين العام لحزب البديل الحضاري المحظور حاليا، خالد مصدق، نائب الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة حاليا، الشيخ بن ساسي، الخطيب المشهور بالدارالبيضاء، يوسف إبرام، رئيس المركز الإسلامي بجنيف في سويسرا حاليا، وغيرهم الكثير... كل ذلك، كان الشيخ مطيع يسابق به الزمن كي يحصن وحدة البلاد من الزحف المذهبي الشيعي القادم مع هدير الثورة الجارف تحسبا للمعادلة القاصمة: من يقع صريع هوى الثورة الإيرانية يسقط سليب الغزو المذهبي الشيعي، خصوصا وأنه كان هناك جذع فكري مشترك، فالأدبيات الفكرية للشهيد سيد قطب والتي تربت عليها الحركات الإسلامية ومنها الشبيبة الإسلامية، هي نفسها التي أعطت زخما نظريا وتربويا للثورة الإيرانية في بواكيرها عندما اعتمدها الخميني في تنوير مدرسته العلمائية، واعتمدتها جماعات الحركة الإسلامية الشيعية في إيران والعراق ولبنان، ولا عجب أن تصدر الجمهورية الإيرانية بعد سقوط نظام الشاه أول طابع بريدي لها يحمل صورة الشهيد سيد قطب. كل ذلك، لم يرو غلة الشيخ مطيع، ولم يُهدّىء من لوعته ولا من لهيب قلقه على المستقبل المذهبي والديني للبلاد، والذي كان لا يرى التهديدات المحدقة به، أقل خطورة من مصير المستقبل السياسي، فالتمزق المذهبي هو إيذان بالاقتتال والتناحر بين الأجيال في المستقبل، ذلك هو حكم التاريخ وديدن التجارب السالفة. فرابطة العلماء التاريخية، والتي تحتضن نخبة علماء البلاد بقيادة المرحوم الشيخ عبد الله كنون، كانت تغط في نومها، وإذا تحركت فببطء السلحفاة، والحركة الوطنية، الحاضنة التاريخية للسلفية والوحدة المذهبية، باتت تتقطع أوصالها وجماعاتها بالموت البطيء، بعد انغماس جل رجالاتها في مستنقع التكالب على غنائم ما بعد الاستقلال. إزاء ذلك تحكمت النظرة الإستراتيجية البعيدة المدى في مبادرات الشيخ مطيع، بالشكل الذي تسمو به قيم الوحدة الوطنية، وثوابت تقوية وشائج التلاحم والانسجام لدى أجيال المستقبل، سموا يستعلي على كل الأدوات والاعتبارات والمسوغات. إذ في اعتباره أن التنظيم وأشكاله السرية والعلنية هو وسيلة من وسائل الحركة الإسلامية لتحقيق الأهداف الكبرى، والوحدة الشعبية والوطنية دينيا ومذهبي واحدة منها، وإذن فقد كان لابد من إطلاق دينامية جديدة للتوعية بثوابت المذهب السني، دون الاكتراث أو الوقوع في التهجم على المذهب الشيعي، لأن الشباب المنتعش وجدانه برؤية قيام المشروع الإسلامي التحرري في نموذج الثورة الإيرانية، قد يحسب ذلك سقوطا في مؤامرة التيئيس والتنكيس والخذلان، تزلفا لأهواء ومؤامرات بعض الأنظمة الحاكمة، وأن هذه التوعية المرجوة، تتطلب إنتاج رموز وفعاليات وشخصيات دعوية ورسالية تستميت في الدفاع عن ثوابت المنهج السلفي للمذهب السني. فعندما أنهى الشيخ سرور بن نايف زين العابدين مهمته - كما سبق وأن بيناه سالفا - جائلا بين الخلايا الطليعية لتنظيم الشبيبة الإسلامية، مأذونا بذلك من الشيخ مطيع، محذرا الشباب من مخاطر شوفينية مذهبية الثورة الإيرانية، وضع تقريره بين يدي مطيع والذي كان له دور فعال في إحداث تحولات مؤثرة على مسار الحركة الإسلامية بالمغرب. فالشيخ سرور زين العابدين، ليس من العيار العادي بين القيادات الإسلامية العالمية، لقد كان هو مولد السلفية الحركية، وكان هو المؤسس المنظر لتيار الإخوانية السلفية فيما عرف "بالتيار السروري". وفي تقريره ورد تنويه ببعض شخصيات التنظيم التي تفاعلت إيجابيا مع أطروحاته ، والتي احتسب لها القابلية الكبرى في أن تكون لها الرمزية الفاعلة في الذب عن ثوابت السنة النبوية، والمنهج السلفي الذي احتماه التاريخ الإسلامي عبر كل أعصره، في وجه الفرق الضالة، وكان من بين هاته الشخصيات التي حظيت بالتنويه من بين قياديي التنظيم، شابان لا يتجاوزان الخامسة والعشرين من عمريهما: عبد الحميد أبو النعيم، وعبد اللطيف بكار. التقط الشيخ مطيع الخيط سريعا، وأرسل في طلب الشابين القياديين ليساكنانه بالحرم المكي حيث يقيم لاجئا، كان ذلك خلال شهر ماي 1979 بعد انتصار الثورة الإيرانية بثلاثة شهور. وفي الديار السعودية، وفر الشيخ مطيع لضيفيه، كل أسباب التواصل مع كبار قيادات الحركات الإسلامية المتواجدين هناك من مختلف الأقطار، ومع كبار المرجعيات العلمية السلفية التي كانت تدرس في جامعات المملكة، وبالخصوص تيار السلفية الإخوانية، من نخبة مفكري تيار السرورية، نسبة إلى الشيخ سرور، والذي كان من أبرز تلامذته : "سلمان العودة" و "سفر الحوالي"، مما دفعهما للإنكباب على دراسة أمهات الكتب في العلوم الشرعية، والدراسات والرسائل التي ترجح المنهج السلفي على باقي اجتهادات الحركة الإسلامية. وسمح الشيخ مطيع لضيفيه بالسفر إلى سوريا لملاقاة السلفيين السوريين بالمكتب الإسلامي ومؤسسه الشيخ زهير الشاويش، وجلس عبد الحميد أبو النعيم وعبد اللطيف بكار طويلا بين يدي الشيخ الألباني أبرز شيوخ الحديث في الأزمنة الأخيرة، وبين يدي الشيخ تقي الدين الهلالي، و الشيخ أبو بكر الجزائري. ولم تدم هذه الرحلة سوى ثلاثة شهور، حتى تشبع الرجلان بثقافة العلوم الشرعية وارتويا من المنهج السلفي وتضلعا في مقومات عقيدة أهل السنة والجماعة، بالشكل الذي تغيرت به في ذهنيتهما كل الموازين والمعايير والمقاييس والمفاهيم التي شكلت الحمولة الثقافية لانتمائهما الحركي الإسلامي السابق ردحا من الزمن، بما كان قد أوصلهما إلى قمة الريادة في حركة الشبيبة الإسلامية. وأصبح البديل في أعينهما ناضجا، والمطالبة جاهزة، مطالبة الشيخ مطيع بالحسم في الخيار الفكري للحركة والذي لم يكن في نظرهما سوى خيار المنهج السلفي، والتي لم تكن في نظر مطيع سوى مطالبة باستبدال الذي هو أضيق وأبسط وجزئي بالذي هو أشمل وأوسع وأغنى، إذ أن منهج حركة الشبيبة الإسلامية كان يستمد حمولته من معين التجربة الحركية الإسلامية الواسعة بكل تلاوينها وروافدها، وكان يستدر سيولته الفكرية أيضا من خزان العطاءات والنماذج الوطنية والإنسانية الرشيدة. وبعودة عبد الحميد أبو النعيم وعبد اللطيف بكار إلى أرض الوطن، محملين بقرارهما الحاسم في الانسحاب من الحركة والافتراق عن أبيهما الروحي لإيمانهما بالمفارقة البينة بين المنهج السلفي والمنهج التقليدي للحركات الإسلامية. بهذه العودة، كتب للمغرب أن يعرف العهد الأول لاستنبات بذور السلفية الحركية في حقل الحركة الإسلامية، وبعودتهما أيضا، والخروج على الجميع بالحلة السلفية الجديدة، انفجر شلال من النقاش العام المستفيض في صفوف الحركة من قواعدها إلى قيادييها لاستعراض الدعوة السلفية الجديدة وتفاصيل أركانها ومضامينها وأبعادها، مما أنتج عنه انشغال عام في التعاطي مع الأصول والعقائد ومنهج أهل السنة والجماعة، انخرط فيه الشباب المنظم وغير المنظم من عموم المتدينين، وانكشفت آثار ذلك في الحضور الكاسح والكثيف للشباب في الدروس التي أصبح يلقيها بعض العلماء والمحدثين في المساجد. والنتيجة: أن إلهاب أوار شعلة الإنكباب على مدارسة العلوم الشرعية والبحث الحثيث عن مظان الحجج والدلائل والبراهين والأسانيد التي أغنى بها علماء السلف مذهب أهل السنة والجماعة، وإن كان قد أحدث ارتجاجة على مستوى البنية التنظيمية للشبيبة الإسلامية بما يشبه العملية الجراحية على الجسد، صيف 1979، فإنه وعلى المستوى الإستراتيجي البعيد الذي يهم مصير البلاد ووحدتها الثقافية والعقائدية والمذهبية، يكون الشيخ عبد الكريم مطيع قد أسدى خدمة جليلة للمغرب السني المالكي،لا تزنها المقاييس ولا الموازين، بتحصينه بيضة البلاد من الفوضى العقائدية والمذهبية التي كادت أن تداهم الأسوار، تلك الأسوار الشاهقة للمذهب السني الواحد والتي بناها الفاتحون الأولون وشيدها العلماء المخلصون على مر قرون متوالية وحفظتها الحركة الوطنية السلفية.