كان يا ما كان، كانت هناك فتاة تدعى أحلام، و كانت أحلام البنت الصغرى لأسرتها الساكنة في بيت جميل و نظيف بوسط المدينة ، و كانت أحلام تستمتع بحياة هادئة في كنف والدين محبين كريمين لم يبخلا عليها و على سائر إخوتها بمال أو رعاية، و أهم من ذا و ذاك الحب. هل أتوقف قليلا ؟ أليست "كان يا ما كان " عبارة تستهل بها قصص الأطفال و الخرافات الضاربة في القدم ؟ أليست "كان يا ما كان" عبارة لتنويم العقول و تخدير الأحاسيس ؟ ألا يراد منها الابتعاد عن الواقع و الإبحار في شطآن الخيال ؟ كلا و ألف كلا... رغم أن قصتنا معاصرة، رغم أن أحداثها تعود فقط إلى 2008 ، فدعونا نحتفظ بهذه البداية، على الأقل حتى نشعرك يا عزيزي القارئ أن هناك ما يستحق الحكي فيما يلي من سطور و أحداث. كانت أحلام قد ختمت هذا العام ربيعها السادس و العشرين، و كان كل من يراها يعتقد بل يجزم أنها شديدة اليفاعة، دعونا نبسط و نقل أنها تلوح أصغر من سنها : 18 أو 19 سنة على أقصى تقدير. أما عن أوصافها، فهي فائقة الجمال، متوردة الخدين بحيائها الطبيعي أو دونه، و في عينيها ضحك دائم و بشر و عشق جنوني للمرح و الحياة. و في مرات كثيرة، حينما تشاهد بعضا من المسلسلات الرومانسية وحيدة أو رفقة بنات خالاتها على شاشة التلفاز، تستعجل ظهور فارس الأحلام في حياتها، ولكم تتمنى أن تمسك معه تفاحة حمراء فواحة العبير رائقة المذاق، و في قضمة واحدة يتلاقى العاشقان. و بما أن فارس الأحلام لم يظهر لحد الآن، فإن أحلام لم يتبق لها سوى الحلم. كان والد أحلام عاملا بسيطا في إحدى شركات التعليب، و كانت أمها ربة بيت. لم يكن هناك في مدينتها البسيطة الرابضة على الساحل الأطلسي إلا صالة سينما واحدة، و مسرح أثري عتيق جلله غبار النسيان بعد أن تناسى المسؤولون ترميمه، و مركز تجاري صغير و بعض المقاهي البئيسة. لذا كانت أحلام تنتظر اليوم الذي سيأتي فيه فارس الأحلام لينتشلها من هذي الحياة الضيقة و يرحل بها إلى عوالم شاسعة و آفاق لامحدودة. و ذات ربيع مشرق، توسطت سماءه شمس وهاجة، و داعبت أشجاره نسائم رقيقة، لاحظت أحلام، و هي تملأ رئتيها بالهواء البحري، في جولتها اليومية على ضفاف الكورنيش، أن اللحظات التي كانت تدخل السرور إلى قلبها و تشعرها بالبهجة أكثر من أي شيء آخر هي تلك التي تقضيها في معية البحر، بالرغم من الوحدة أحيانا و زخات المطر أو تيارات الهواء البارد أحيانا أخرى. و كانت أحلام فريسة للعذاب النفسي، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، و تدعو الله في سرها أن يعجل بالفرج، و ذات يوم تخيلت أن المحيط اللانهائي استحال آذانا بعدد النجوم و حبات الرمل بل و ذرات الكون بأسره، و أن هذه الآذان كلها صاغية لها. يا إلهي، كم كان ذلك رائعا، و لكنه حلم. و حتى تتأكد من ذلك، قرصت يدها فاحمرت ثم ازرقت، و خاطبت نفسها ساخرة : متى تفيقين يا بنتي من الأحلام؟ لم العذاب ؟ ما الذي يكدر صفو أحلام ؟ كيف لهذه الفتاة الفياض قلبها شبابا و براءة أن تجرب العذاب ؟ كيف لقلبها أن يكتوي بسياطه ؟ كانت أمها تعيد على مسامعها كل يوم، منذ ثلاث سنوات خلت و حتى الساعة، أنه بات لزاما عليها أن تظفر بزوج مناسب، و على قدر كبير من المال، أما المكانة العلمية أو الاجتماعية فلا تهم بتاتا. الذي يضمن العيش الكريم و راحة البال مال وفير و سخاء في الإنفاق و كفى. و كانت هذه الكلمات قد أصبحت بقوة الترديد لازمة حفظتها عن ظهر قلب، بل إن كلام أمها أصبح مسجلا في ذهنها مثل أسطوانة قديمة. و جاء صيف 2008 بحره و أفراحه و صخبه و أعراس الجيران الصادحة حتى مطلع الفجر، و وجدت أحلام نفسها، تحت الضغط العائلي، متزوجة بأحمد، رجل يكبرها بخمسة عشر عاما، لا تعرف شيئا عنه، و لم تحس نحوه و لو بمثقال ذرة من الإعجاب، و لم تشعر و لو لهنيهة أن هذا هو نصفها الآخر، قد فصل على مقاسها، و معه ثمة مجال للحلم و الخيال و بناء الآمال و استشراف المستقبل. و كان أول تحول حصل في حياتها الجديدة أن تركت بلدتها الساحلية العزيزة على القلب، أن نأت عن المنبت و المرتع و الموطن و الجذور، لتشد الرحال إلى مدينة ثانية لم تتخيل يوما أن تسكن بها. هنا في قلب الصحراء، على مبعدة مئات الكيلومترات من مسقط رأسها أصبح واجبا عليها أن تعيش مع زوجها أحمد. - اسمعيني جيدا يا أحلام، أنا رجل ملتزم و أخاف رب العالمين، إني لا أقبل عمل المرأة مهما كانت الأسباب. فلتمكثي في البيت، و لك ما شئت من الطلبات. - و لكن... (و تحجرت في مآقيها دموع الصدمة، دموع من لسع غدرا)، ليس هذا ما اتفقنا عليه، أنا سوف أواصل عملي في قطاع السكرتارية بالبحث هنا عن عمل جديد. - عمل جديد ؟ و هل سأحرمك من المال و العيش الكريم حتى تلجئي للعمل ؟؟ - ليس كل شيء يقاس بالمال يا أحمد. أنا أريد أن أواصل العمل لأني بذلك أحقق ذاتي... - تحققين ذاتك؟ تريدين أن تختلطي بالرجال ؟ - اسمعني جيدا، يجب أن تفهم أن... - أنا لا أريد أن أفهم شيئا. ما فهمته الآن أنك تجهلين دينك، تجهلين الحدود بين الحلال و الحرام، و يا للأسف... - أرجوك دعني أتكلم... - لا كلام و لا هم يحزنون. اختاري واحدا من اثنين : المكوث معي زوجة مصونة أو العمل خارج البيت. انتهى النقاش... "لقد انتهى النقاش فعلا مع هذا الرجل، و يا لي من غبية حين اخترت أن أظل معه. لا تفاهم مع هذا الأصم. و أنا أدبج هذه السطور بمداد الخيبة و الندم، يشق علي أن أواصل الكتابة، لأن دموعي تنهمر غزيرة على الورقة، و بات مضحكا أن ابحث عن منديل حتى أضعه حاجزا بيني و بين بنات أفكاري التي أطلق لها العنان. فلأكفكف دموعي بكم جلبابي و لأواصل البوح للورقة، كما كنت أفعل مع البحر. البحر ! آه من لوعة الذكريات، وا أسفاه على النورس الطليق الحر الذي كنته ! وا وجعاه ! في هذه الليلة الساهرة من نهاية يناير 2014 ، استغل خروج أحمد منذ أسبوع كامل للتجارة في أقصى الشمال، و اكتب هذه الاعترافات. هل تسمعني هذي الكراسة المانحة عذريتها لرأس القلم ؟ هل يسمعني الليل، و الجدران، و دقات الساعة، و رمال الصحراء، و ابنتي ليلى ذات السنوات الأربع، و شقيقها الجنين في رحمي الذي سيخرج للعالم بقدرة المولى بعد 3 شهور أو أقل ؟ هل يسمعني البوح نفسه، و الكلام و الصمت و الألم و الأمل في غد أفضل ؟ " بم أحلم ؟ بغد أفضل ؟ و إذا أصررت على الطلاق من الوحش و نلت مبتغاي، و عدت إلى بلدتي، فما مصير هذين الملاكين ؟ الضياع ؟ شد و جذب بين أم مطلقة و أب ينتظر أول فرصة ضعف مني ليستأسد و يتسيد و يتجبر ؟ و المجتمع؟ و كلام الناس ؟ و بأي وجه ألقى أسرتي هناك ؟ رباه، إن رأسي سينفجر، غفرانك، لكني كرهت الحياة... و هنا تحسست أحلام أسفل بطنها بيد مرتعشة بالحب و الرجاء، و صارت تتراقص بجنون أمام عينيها عشرات الذكريات و الصور : المنشأ، و البحر، و زمن العذرية و البراءة، و الخنوع، و الخسران، و الرحيل، و القبلة الأولى و الأخيرة دون عاطفة أو طعم، و انتظار حب لم يأت، و الجري وراء الأوهام، و الافتضاض الغاشم، و الألم، و الدموع، و عض الأنامل من الندم، و ضياع الآمال، و السجن، و الصوت الجهوري الآمر لسي السيد، و غلطة الإنجاب مع حضرة الغبي... و هل نحيا و نرافق و نلد و نتناسل دون حب ؟ ما الجدوى؟ دوامة اللامعنى، و نهاية الأحلام... * أديب و أستاذ جامعي [email protected]