وصلني في بحر الأسبوع الماضي شريط فيديو استفزني أيما استفزاز وأبيت إلا أن أعقب على صاحبه بالتي هي أحسن... أو بالأحرى بالتي هي أبسط. فحوى الشريط عبارة عن مقارنة تهكمية بين علماء الغرب وما تحقق على أيديهم من اختراعات وبين علماء الدين المسلمين الذين لم يبرعوا طوال حياتهم العلمية إلا في فن الكلام والوعد والوعيد ولم ينفعوا لا بني جلدتهم ولا غيرهم من الأقوام بشيء يستحق الذكر حسب تعبير الشاب الوسيم صاحب هذا الاستنتاج "الثوري". وما زاد الطين بلة أن منتج الشريط ربما تعمد تعديل صور علمائنا فبدت وجوههم وكأن بها مسحة كاريكاتورية الغاية من إضافتها تنفير المتابعين منها وحملهم هم أيضا على الاستهزاء بها. وكان من "الطبيعي" أن ينال منتوجه العجيب المئات من قلوب الإعجاب، وكان من "المنتظر" أيضا أن يتفاعل الكثير من مستهلكي المنشورات الإلكترونية مع محتوى الفيديو وذلك بتحرير تعليقات صب جلها في اتجاه الزيادة في جرعة التهكم في حق من أبوا إلا أن يحملوا على عاتقهم رسالة تحقيق الأمن الروحي للناس ويكرسوا حياتهم لتنوير بني البشر، بدعوتهم إلى سلك الصراط المستقيم أو بتفسير ما استعصى على الفهم أو بالخوض في القضايا الشرعية والفكرية الصغرى منها والكبرى، ولو ظل نشر الأفكار يتم بالطرق التقليدية لما سمح الرقيب لهذا الصنف من المحتوى بأن يجد طريقه إلى القراء أو المستمعين أو المشاهدين لما فيه من مغالطات وخدش صارخ لصورة ورثة الأنبياء. لقد اختلط الحابل بالنابل عندما ساوت وسائل النشر الحديثة بين العالم والجاهل حتى أصبح المتلقي المنتمي إلى عامة الناس في حيرة من أمره إذ لم يعد يعرف ما إذا كان عليه أن يأخذ بحجج الأول أم بهرطقات الأخير. وفي واقع الأمر لا يتوقف استخفاف صاحبنا وأمثاله من السطحيين وعديمي المناعة الحضارية عند العلماء الربانيين، بل يتعداه في الغالب ليشمل كل المنخرطين في العلوم الإنسانية أيضا بما أن المنتسبين لهذه الفئة من المثقفين لا ينتجون هم كذلك غير الأفكار وتعوزهم القدرة على الإتيان باختراعات مادية تضاهي في قيمتها قيمة الصواريخ الباليستية أو الطائرات النفاثة أو البينيسيلين أو الأنسولين. ولهذا السبب أجدني مضطرا إلى توسيع النقاش ليشمل كل هؤلاء أيضا. للأسف الشديد، لقد أضحى تمجيد الماديات والتخصصات الدنيوية الحديثة ثقافة راسخة في طريقة تفكير الكثير من المجتمعات المتخلفة، وهذا ما يفسر احتقار المغاربة لما يصطلح عليه ب "الشعب الأدبية" لدرجة أن رسو اختيار أحد الأبناء على علم من العلوم الإنسانية يعتبره معظم الآباء كارثة بل ووصمة عار على جبين العائلة. هناك اليوم حاجة ماسة إلى حث شرائح واسعة من المجتمع على إعادة النظر في مقاربتها لهذا الصنف من العلوم وعلى التوقف عن تصنيف المسالك الأدبية ضمن الملاجئ، المفتوحة حصريا في وجه طلاب العلم المتوسطين الذين لا يجيدون غير الحفظ عن ظهر قلب (يا له من تبسيط سخيف !!). المسألة إذن مسألة عقلية قاصرة وتربية معيبة في غياب الوعي بأهمية تكامل العلوم. فالتلفاز مثلا كاختراع علمي يشهد الجميع بأهمية دوره في التثقيف والإخبار والتسلية لن يصلح بالتأكيد لأي شيء إذا ظل مجرد صندوق، إذ لا بد أن يشتمل على مضمون يحمل توقيعات إعلاميين وفنانين وفلاسفة ومنشطين ومفكرين وأدباء وغيرهم ممن لا علاقة لهم إطلاقا لا بالرياضيات ولا بالكيمياء ولا بالفيزياء ولا بعلوم الحياة والأرض، وأوراش من قبيل بناء سد كبير أو إقامة منطقة صناعية مندمجة أو شق طريق رئيسية جديدة من المفترض ألا تفتح إلا إذا خضعت المشاريع المعنية بالأمر لدراسة سوسيولوجية مسبقة يكون الإنسان محورها. طبعا مقارنة تنطوي على قدر هائل من التبسيط كتلك التي جاء بها الفيديو المعلوم لا يمكن أن تصدر إلا من جاهل أو من تافه منبهر بالماديات، ويختزل مقومات الحياة على الأرض في الأزرار والشاشات والأسلاك الكهربائية والهياكل الحديدية والسبائك الفولاذية والألواح القصديرية والقطع البلاستيكية والمطاطية والمكونات الإلكترونية والميكانيكية، أما باقي عناصر الحياة من تفكير وتدين وتربية وإبداع وتشريع ونشر للوعي فلا تستحق أي اهتمام أو تنظير أو تأطير في تصوره، إلى أن يدرك يوما ما بأن المصير الحتمي للماديات هو مطارح الأزبال ومقابر العربات وأسواق المتلاشيات وذلك بمجرد ما يظهر اختراع جديد جاء ليعوض اختراعا تجووزت موضته أو انتهت صلاحيته أو بمجرد ما تطرأ إضافة على اختراع متداول. إن الاختراعات مهما علت قيمتها وتأكدت فائدتها لا تجلب الوئام ولا تخلق السعادة والطمأنينة والتوازن النفسي ولا تضع حدا للمشاكل الاجتماعية العويصة، ولا ولن تعوض الإنسان أبدا في العناية بالأطفال وتربيتهم ولن تقف في وجه الموت وإن أفلحت في تمطيط الحياة ببضع سنوات. الخلود يكون دائما للأفكار السوية (وحتى المنحرفة أحيانا) وللإبداع الأدبي والفني البناء (وحتى الهدام أحيانا) ولا أدل على ذلك من أن زبدة تفكير أفلاطون وابن رشد وديكارت وروائع موليير وتوفيق الحكيم وشكسبير ودرر دوستويفسكي ومصطفى محمود وهنري ترويا وحتى "انحرافات" كارل ماركس وأبي نواس ونوال السعداوي لم تتوقف أبدا عن المساهمة في إدارة دواليب المطابع، ولو لم يكن الأمر كذلك لما رفضت كل المتاحف التاريخية الكبرى تخصيص فضاء لعرض الآلات والأجهزة المصنعة، ولما تشكلت أساسا معظم حكومات العالم من ذوي التخصصات المرتبطة بالعلوم الإنسانية بحكم نظرتهم الشمولية للملفات المطروحة وقدرتهم على القراءة الذكية والتعبير والتواصل واستشراف المستقبل، ولما كادت شوارع العالم بأسره أن تخلو من أسماء المخترعين المعاصرين وتعج في المقابل بأسماء المفكرين والمصلحين والمبدعين والمقاتلين ورجال السياسة وذلك حتى في الدول الغربية مهد المستجدات التكنولوجية... وشاء من شاء وأبى من أبى ستظل ألعاب القوى أم الرياضات، وسيظل المسرح أب الفنون، وستظل الفلسفة (وكل ما تفرع عنها) أم العلوم. لقد عاش الإنسان لآلاف السنين بوسائل بسيطة وعمر الأرض وأبدع في أكثر من ميدان، ولم يثبت أبدا بأنه خرج يوما ما في مسيرة مليونية للمطالبة بابتكار أدوات توفر عليه الوقت والجهد وتؤمن له المزيد من الراحة والرفاهية إلى أن فرضت عليه هذه الأدوات بشكل فجائي وشرع في الاستئناس بها، لكنه في المقابل عبر عند الاقتضاء وغير ما مرة عن حاجته إلى السلم والسكينة والعدل والحب والتعاون والإخاء، وهذه حاجيات لا تدخل تلبيتها ضمن أهداف المختبرات العلمية. ولم يكن هذا الكائن أيضا بحاجة إلى الذكاء الاصطناعي بما أن ذكاءه الطبيعي مكنه دائما من تطويع الطبيعة وتدبير أموره وقضاء مآربه بشكل مرض بل وأهله أيضا لوضع الأسود في أقفاص على الرغم من ضعف بنيته مقارنة ببنية هذه الكائنات الرهيبة. وفي غياب الطائرة تمكن أجدادنا من الوصول إلى السند والهند، وفي غياب السينما و"يوتيوب" والتلفزيون لم يقفوا مكتوفي الأيدي وراحوا يرفهون عن أنفسهم بطرق أخرى، وفي غياب وسائل التطبيب الحديثة توكلوا على الله وجربوا الوصفات التقليدية وخبروا ثنائية الحياة والموت كسابقيهم ومعاصريهم ومن أتى بعدهم من الكائنات الحية، وفي غياب تقنية التراسل الفوري اكتفوا بوسائل الاتصال التقليدية ولم يشتكوا أبدا من بطء أدائها، وفي غياب الإنترنت ظلوا يلهثون وراء المعلومة بشتى الأساليب البدائية إلى حين العثور عليها. لا شيء إذن يبرر تمجيد تكنولوجيا العصر إلى حد العبادة وخاصة عندما نلاحظ ما آلت إليه أمور بعينها بسببها. انظروا مثلا إلى تأثير الهاتف المحمول على سلوك الأشخاص، وانظروا إلى تأثير الإنترنت على أداء الكسالى والغشاشين من المتعلمين والباحثين، وانظروا إلى ما فعلته ومازالت تفعله الألعاب الإلكترونية بعقول الأطفال، وانظروا إلى الإحراج والانزعاج اللذين تتسبب فيهما كاميرات المراقبة وكاميرات التصوير عندما يدرك المرء بأنه في مرمى عدساتها في أكثر من فضاء، وتخيلوا معي ما سيكون عليه كوكبنا لو قدر لأزرار الترسانات النووية أن تصبح تحت تصرف مجموعة من الزعماء الحمقى... وما هذا سوى غيض من فيض. الأنكى من هذا وذاك أن العلم المادي الحديث رهن حياة الناس بشكل غير مقبول، إذ يكفي مثلا أن ينقطع التيار الكهربائي لتشل الحركة بالكامل، ويكفي أن يتسرب فيروس إلى حاسوب أو مجموعة حواسيب لتصبح المعطيات المعلوماتية المخزنة في خبر كان... ويكفي أن تتذكر وأنت بمقر عملك أو على متن سيارتك أو بسوق حيك أنك نسيت محمولك بالبيت ليجن جنونك!!!! لست هنا بصدد التقليل من أهمية المستجدات التكنولوجية المتواترة. أنا أريد فقط إثارة انتباه الناس إلى ضرورة تثمين كل التخصصات بدون استثناء حتى لا ندفع من حيث لا ندري في اتجاه تكريس الطابع التقني لمنظومتنا التعليمية وتجريدها في المقابل من رسالتها الإنسانية المتمثلة، في ربط المتعلم بهويته الموروثة مع مساعدته على الانفتاح على مختلف التيارات الفكرية والإبداعية العالمية ومع تمكينه من أدوات البحث والنقد والتحليل. المجتمع في حاجة إلى المخترع والطبيب والطيار والميكانيكي بنفس درجة حاجته إلى الفقيه والسياسي والمهرج والكاتب العمومي. إن انبهار الناس بحاملات الطائرات الأمريكية والفرنسية وبناطحات السحاب النيويوركية والخليجية وبالسيارات الرباعية الدفع اليابانية والألمانية، وإن كان هناك ما يبرره فإنه لن يحول أبدا دون استمرار تأثير الفلاسفة والأدباء والشعراء والفنانين في حياة المجتمعات ولن يحول دون استمرار تقبيل أيادي العلماء الربانيين في مشارق الأرض ومغاربها رغم كل المحاولات الرامية إلى تقزيمهم. فمهام كل هؤلاء وإنجازاتهم، وإن كنا لا نراها دائما بالعين المجردة، إلا أن أثرها على سمو النفس والروح ودورها في الارتقاء بالسلوك البشري والعلاقات الإنسانية وفي تشكيل الرأي العام لا يخفيان حتى على فاقدي حاستي السمع والبصر... والثورات الشعبية التاريخية الناجحة عبر العالم ما كانت لتحدث لو لم يمهد لها الطريق المثقفون والمفكرون ومحبو الحكمة العظام والذين لا تفرخهم الجامعات بالعشرات، إذ لا بد من انتظار عشر سنوات أو عشرين سنة ليبرز اسم من عيار محمد عبده أو عبد الوهاب المسيري أو عبد الله العروي وهذا في الوقت الذي تضمن فيه دولة بمقدرات ووسائل دولتنا تخرج ما يناهز 2000 مهندس و2000 طبيب سنويا. فليكف البعض إذن عن اعتبار العلم حكرا على طبقة من العلماء دون غيرهم. فالعلم في نهاية المطاف هو ما نعرفه وما لا نعرفه. هكذا كانت قناعة كونفوشيوس فيلسوف الصينيين قبل حوالي 2500 سنة.