يبدو أن الدولة الجزائرية، بعد قرابة ثمانية عقود من تأسيسها، ما زالت غير قادرة على التخلص من مخلفات الحرب الباردة وتستمر في التمسك بالإيمان بمبادئ جامدة في عالم متغير، وهو ما انعكس على طبيعة خطابها السياسي الذي يصر على تصوير البلاد وكأنها "حصن الثوار" الذي يتآمر الجميع على إسقاطه، والدولة التي تؤدي ثمن التشبث بمواقفها ووقوفها إلى جانب "المظلومين"، ولو على حساب الإخوة والأصدقاء، كما جاء على لسان الرئيس عبد المجيد تبون. تبون الذي خرج أمس السبت في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه وسائل إعلام بلاده ليعيد تلحين "الأنشودة السياسية" نفسها التي دأب النظام الجزائري على ترديدها على مسامع العالم، كشف، حسب محللين، عن "العقم السياسي" الذي يُميز خطاب النخب السياسية والعسكرية في هذا البلد، والذي أُريد له ألا يخرج عن مثلث أضلعه: المغرب والصحراء والمؤامرات الخارجية. وفي محاولة لاستعادة "المجد الدبلوماسي الغابر" للجزائر وإعادة تنشيط عضلاتها الدبلوماسية التي أصيبت بتشنج في كل من مالي والنيجر وأوكرانيا، تحدث الرئيس الجزائري كما كان متوقعا عن قضية الصحراء المغربية، التي قال عنها إنها "إنها "قضية تصفية استعمار ولو تم استعمال منطق العقل بدل منطق القوة لتم إيجاد الحل"، زاعما في الوقت ذاته أنه "لا يوجد قرار لجامعة الدول العربية على سيادة المغرب على الصحراء"، وذلك رغم أن هذا التكتل العربي يعتمد خريطة المملكة كاملة ويؤكد في كل بياناته التي تشارك الجزائر في صياغتها على مبدأ احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، بل ويجاهر مسؤولو عدد من دوله بدعهم لمغربية الصحراء في حضور ممثلي الدولة الجزائرية. وبشكل علني ولأول مرة منذ الاجتماعات التي عقدها مع نظيره في تونس ورئيس المجلس الرئاسي الليبي، كشف رئيس الجزائر عن نية بلاده تأسيس كيان بديل للاتحاد المغاربي يضم تونس وليبيا، حيث أشار إلى وجود اتفاق مع هذين البلدين في هذا الإطار، مُفسرا هذه الخطوة بالفراغ الذي تشهده المنطقة على مستوى التكتلات، وإن كان قد تناسى أن بلاده هي المسؤولة الأولى والوحيدة عن هذا الفراغ إثر إصرارها على استزراع كيان وهمي في المنطقة المغاربية، قبل أن يضيف أن التحالف الجديد "لا يستهدف أي دولة"، بتعبيره، مُلمحا إلى أن الباب مفتوح أمام المغرب للانضمام. على صعيد آخر، لم يفت تبون أن يستعين ب"نظرية المؤامرة" في تفسير التفاعلات الإقليمية والدولية، إذ أشار إلى أن التحذير الذي سبق أن وجهه المجلس الأعلى للأمن إلى دولة عربية لم يسمها "ما زال قائما"، متهما إياها ب"الضلوع في مخططات لتخريب وإشعال نار الفتنة في دول الجوار"، في ما اعتبره متتبعون إشارات إلى الإمارات التي يشن عليها الإعلام الجزائري هجوما متكررا نتيجة مواقفها من مجموعة من القضايا الإقليمية، على رأسها قضية الصحراء. تصريف أزمة ورهان على التقسيم في قراءته لمضامين ولغة هذا الخطاب وكذا سياقه، أورد إسماعيل أكنكو، باحث في الشؤون السياسية والدولية، أن "السياق الذي يأتي فيه تصريح الرئيس الجزائري، هو سياق دقيق تعيشه الجزائر أولا على المستوى الداخلي باعتبار أن النظام يستعد لانتخابات سابقة لأوانها، وهذا الأمر في حد ذاته أزمة يتمنى أن يخرج منها بأقل الأضرار نتيجة للنقاشات التي أثيرت حول هذه العملية وجدواها ما دام أن الإرادة الشعبية الجزائرية مغيبة ولا تجد سبيلا إلى النفاذ بسبب العجز البنيوي الذي يحيط بالمربع الحاكم في البلاد، وبسبب الحجر على الأصوات المعارضة". وأوضح أكنكو أن "السياق إذن مرتبط بتصدير الأزمة الداخلية وتصريفها إلى أمور أصبحت هامشية"، مسجلا في هذا الصدد وعلاقة بالنوايا الجزائرية لإنشاء تكتل مغاربي ثلاثي في المنطقة أن "التكتلات الإقليمية والجهوية تبنى بالإرادة الحرة للدول والحالة هذه أن ليبيا وتونس لم تعودا تتمتعان بهذه الإرادة وأصبحتا تستظلان بالمظلة الجزائرية. وبالتالي، فإن هذه الخطوة هي تنافسية بالدرجة الأولى تجد لها تفسيرا في رغبة الجزائر في التشويش على المبادرة الملكية المغربية لفتح الفضاء الأطلسي في وجه الدول الإفريقية والعالم كفضاء للتواصل الإنساني والاندماج الاقتصادي والاجتماعي". وشدد المصرح لهسبريس على أن "الجزائر، منذ مدة ليست باليسيرة، وخاصة بعد عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي والتحركات التي قادها جلالة الملك في عدد من الدول الإفريقية والشراكات التي نسجها، لم يعد يغمض لها جفن؛ فهي تحاول بكل ما أوتيت من قوة عزل المغرب عن محيطه الإفريقي أولا، وأساسا الجوار المغاربي الذي كان واحدا من المؤسسين لتكتله والمساندين له، وأريد له الإقبار بفعل المواقف العدوانية للجزائر تجاه الوحدة الترابية للمغرب". وخلص أكنكو إلى أن "هذا الأسلوب في الرهان على التقسيم امتد ليصل إلى جامعة الدول العربية باعتبارها فضاء جيو-سياسيا يتمتع فيه المغرب بمكانة متميزة، لا سيما مع دول الخليج وغيرها، وهي التي لا تفتأ تعبر عن مساندتها القوية لسيادة المغرب كاملة ووحدته الترابية، بما في ذلك الأقاليم الصحراوية، وهو ما يغيض الجزائر ويجعلها تناور من أجل خلخلة هذه العلاقات، بيد أن ذلك لم يعد ممكنا الآن وعلى المدى البعيد بفضل ما راكمه المغرب من تقدم وإنجازات أهلته ليدخل نادي الدول الموثوق بها والحاضرة بقوة في مختلف المحافل الجهوية والدولية". جبهات جديدة وأسطوانة قديمة تفاعلا مع الموضوع ذاته، قال شوقي بن زهرة، ناشط سياسي جزائري معارض، إن "الجزائر انتقلت إلى مستوى آخر في مواجهة المغرب، إذ لم تعد تقتصر على دعم البوليساريو ضدا في المملكة بل توجهت إلى محاولة خلخلة علاقات الرباط بدول المنطقة، خاصة الدول العربية والمغاربية، في محاولة لكبح اتجاه هذا النزاع نحو الحسم النهائي، خصوصا على الساحة الأوروبية مع الموقفين الإسباني والألماني وظهور بوادر موقف مماثل لدى فرنسا". وأشار المصرح لهسبريس إلى أن "كل الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات، وغيرها من الدول تدعم علنية مغربية الصحراء. وبالتالي، فإن إنكار النظام الجزائري لذلك ما هو إلا محاولة لشق الصف العربي وفتح جبهة جديدة للأزمة مع المغرب". في سياق آخر، بين الناشط السياسي الجزائري أن "حديث الرئيس الجزائري عن تأسيس تكتل سياسي يضم الجزائروتونس وليبيا، دون المغرب وموريتانيا، يؤكد رفض هذه الأخيرة الدخول في أي تكتلات من هذا النوع دون حضور المملكة المغربية، وبالتالي رفضها لسياسة الجزائر في هذا الإطار"، مسجلا أن "النظام الجزائري أثبت أنه مصاب بعقم وجمود سياسي ويتأرجح تناقضه بين خطاب يدعو إلى الوحدة والتكتل وفعل دبلوماسي يسعى إلى التفكيك والتقسيم وإحداث شرخ في العلاقات ما بين الدول المغاربية خدمة لمصالحه وأجنداته في المنطقة". وخلص شوقي بن زهرة إلى أن "كلام تبون عما أسماه مخططات ضد الجزائر من دولة عربية لم يذكرها، يحمل إشارات مباشرة إلى كل من المغرب والإمارات اللتين يتوجس النظام من تقارب مواقفهما السياسية حول العديد من الملفات ودعم أبوظبي وترافعها على المستوى الدولي والعربي على ملف الوحدة الترابية للمغرب"، مسجلا أن النظام الجزائري يكرر دائما هذه الأسطوانة، وبالتالي فلا جديد فيما قاله تبون".