كانوا يبتسمون جميعا وينظرون بأعين خبث امتزجت بدهشة، قال أحدهم ممازحا: "" السعودية الوحيدة في حياتي التي أسمعها ذاهبة لتزور المغرب. وسألني آخر ساخرا: ماذا ستفعلين في المغرب؟ أجبته ضاحكة: ما تفعله أنت. المغرب ارتبط خليجيا بالنساء، بالسكر. بالعربدة. كل امرأة تعتقد أنها ستفقد زوجها إن هو شد رحاله تجاه الأطلسي.. المغرب العريقة، جبال أطلس، الأساطير التي تعج بها المنطقة..المغرب بكتّابه ومؤلفيه وشعرائه، المغرب المركب والمتنوع عربياً وأمازيغياً، مسلما ويهوديا.. كلها اختصرت بليال حمراء وزرقاء.. عدد من شابات المغرب المتعلمات المستقلات والمتحررات. قلن لي إنهن يرفضن حتى أن يزرن بلاد الخليج. فالخليجي ينظر للسيدة المغربية على أنها (ساقطة) أو حق مشاع للجميع.. لدرجة مطالبة نسوية قبل عامين للملك بقرار سياسي لحماية سمعة المغربيات التي تلوثت. من لوّثها؟ الفقر، التربية، السياحة الجنسية، أم أموال النفط؟ الدعارة منتشرة في المغرب بحسب الدراسات، أكثر من أربعة آلاف من دورها في الدارالبيضاء وحدها. لكن الفقر المدقع الذي رأيته لم يعد يدفعني لنقد المقايضات المالية بالأجساد نقداً فوقياً. لم يعد سهلاً جرح أولئك الصغيرات اللواتي يهاجرن إلى بلدان بعيدة طلبا للمأوى والمسكن بأية طريقة. فعدا عن إعالتهن لأسرة من ستة أو ثمانية أفراد، فإنهن مسئولات عن تكاليف الدراسة الجامعية أيضاً. هموم لا تنتهي على كاهل الصبايا.. أهناك بؤس أكثر من ذلك؟ ألم يكن من حق الصغيرة أن تعيش كالبقية في مثل عمرها.. منطلقة، حرة، غير مسئولة؟ بديهي أن لا يشعر المغربي أو المغربية بالجمال من حولهما، جلّ حلمهما تذكرة هجرة لأوروبا. هناك ستة ملايين فرد مغربي تحت خط الفقر. مليون وثلاثمائة ألف عاطل وعاطلة عن العمل. وهناك المنبوذات.. لن ينقض المجتمع الشرقي على امرأة تمضي الليالي مع الغرباء لكنها إن تساهلت وحملت من الغريب، أصبحت منبوذة المنبوذات وفي الدرك الأسفل مجتمعياً. لا تنقذها سوى الصدفة وسيدة اسمها عائشة الشنا.. ذلك ما تقوم به السيدة المغرببة عائشة الشنا، ممارسة القوة منذ إحدى وخمسين عاماً. أسست جمعية التضامن النسوي عام 1985 هي الأولى من نوعها للعناية بالمنبوذات في المجتمع. والمنبوذات هن الأمهات العازبات. في المغرب لا يطبق قانون تجريم الجنس وهو الحبس لكل من مارس علاقة جنسية خارج إطار الزواج، تقول عائشة مبتسمة، لو تحققت العقوبة لامتلأت السجون وفاضت.. لكنها اخترعت طريقة لإنقاذ الفتيات. دخلت المناطق المحرمة وصنعت حلا. جعل اسمها يتحول إلى (الأم) هكذا ينادونها في المغرب.. انتقدتها الجماعات المتشددة ووصمتها بالكفر، لإيوائها أمهات يحملن أطفالاً غير شرعيين أو قانونيين، أمهات مارسن الجنس دون زواج، قالوا أن ما تفعله أمر ينتهك حرمة الدين. هل لديهم حلول مجتمعية وبدائل تربوية غير الرجم؟ المجتمع الذي يهوى الجسد الفتي البض، يحوله لجلد مهترئ. يجلده ويرجمه لعله ينسى أنه وقع بسبب ذلك الجسد بفخ الخطيئة. عائشة لا ترجم أحدا ولا تلوم أحدا، الأم تعالج المشكلة دون أن تقوم بتوزيع أحكام الخطايا وصلوات المغفرة.. وهو أمر بعيد على الثقافة العربية. الطريف اليوم أن تلجأ إليها أمهات منقّبات حملن عن طريق عقود زواج عرفية من متشددين، رغم تقييد تعدد الزوجات في المغرب بناء على مدونة الأسرة التي أقرها الملك قبل سنوات قليلة.. إلا أن عددا من الأصوليين (أصحاب الدين) يمارسون الزواج العرفي ويتخلون عن الأم وطفلها لاحقاً. تقول"ليس الاسلاميون وحدهم من أظهر لي العداء، بل حتى بعض المثقفين المغاربة من أطباء ومهندسين ورجال قانون. لقد اصطدمت بعقلية المجتمع المغربي المحافظ الذي ينطلق من أحكام مسبقة وقاسية". ربما هذه هي عقلية العربي المختلفة سياسياً واقتصاديا والمتناحرة قبائلياً وفكريا، لكنها متفقة في أحكامها ضد المرأة: المثقف والليبرالي والإسلامي غالبيتهم لديها حكم واحد تجاه المثقفة وغير المتحجبة والأم العازبة والمسافرة وحيدة والمتعلمة.. كلهن عاهرات. وتكمل وصفها "انه مجتمع انفصامي. لماذا بنت الجامعة تعيش حياتها الجنسية كما يحلو لها وبعد ذلك تصنع بكارة مزيفة للزواج. أليست هذه قمة الانفصامية؟ كيف يرضى الرجل ان يقيم علاقات جنسية مع فتيات في المجتمع ويريد ان تكون زوجته عذراء؟ انه مجتمع يحتمي وراء ستار الدين والقانون. يريد شيئا ويمارس شيئا آخر". وعود كاذبة بالزواج، اغتصاب، سفاح قربى... تصل إليها الفتاة منهارة باكية، وكأن حياتها قد انتهت، لتتعلم في جمعية التضامن النسوي أن تلك لم تكن نهاية الدنيا، وأنه ليس إلا موقفا من المواقف السلبية التي تمر في حياة المرء وعليه أن يجتازها ويتعلم منها. هو ليس دير ولا ميتم لا جمعية خيرية تنفق على أولئك الفتيات مجاناً، بل مؤسسة متكاملة تحتضن الأمهات وترعاهن حتى يلدن، وبعدها توظفهن في دور الجمعية المختلفة، هناك مطبخ ودور خياطة ومجالات غيرها يمكنها أن تدر على النساء المال. كما يتم الاعتناء بالطفل وتوليه الجمعية الرعاية التامة. أجمل وأعقد ما تقوم به الأم عائشة هو البحث عن والد الطفل وإقناعه بالعودة والاعتراف بإبنه وإثبات نسبه إليه.. تحول القضايا إلى المحاكم بعض الأحيان، وقد نجحت بإجراء اختبارات الحمض النووي على عشرات الرجال لإثبات أبوتهم للأطفال. حين تحدثت إليها كانت مشغولة وسعيدة للاحتفال في اليوم التالي بزواج إحدى العازبات بوالد طفلها الحقيقي. امرأة تعدت الستين من العمر، مريضة بمرض خطير.. وتسير كأنها بدأت مشوار العناية بالمضطهدات للتو. بل توسع مضمار اهتمامها لترحب باستقبال نساء عربيات من كافة الأقطار والجنسيات والديانات. قبل فراقنا كانت تلك الأم الملاك لا تقاوم وهي تحكي عن أحلامها التي تراودها: مريم العذراء، القديسات.. الراهبات... دعوات من وحيدات وزاهدات لإكمال الطريق وإنعاش المعذبات. [email protected] ( شفاف الشرق الأوسط)