في ندوة علمية وفكرية رام من خلالها حزب الحركة الشعبية "تشخيص الوضع المائي بالمغرب ومدى نجاعة السياسات الحكومية والإجراءات الحالية"، وكذا تدارُس "سبل اقتصاد الاستعمال المائي في الفلاحة على وقع تراجع الموارد المائية"، فضلا عن "كلفة تحلية مياه البحر على النشاط الفلاحي والاقتصاد الوطني"، أجمعت جُل مداخلات المتحدثين على "الضرورة الاستعجالية لمراجعة جذرية للسياسات الفلاحية المتبعة بالمغرب". اللقاء العلمي، المنعقد ليل الخميس، استبق الاحتفاء ب"اليوم العالمي للماء" (22 مارس) غير بعيدٍ عن وادي أبي رقراق بسلا، ملتمئا تحت عنوان "أزمة الماء بالمغرب بين السياسات والتحديات وضرورة الاستدامة"، عرف حضور قيادات حزبية من المعارضة؛ فيما افتُتح ب"كلمة توجيهية" لمحمد أوزين، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية، مؤطرا النقاش من خلال عدد من الأسئلة البارزة. "مراجعة جذرية للاستعمال الفلاحي للماء" أقوى المداخلات التي استرعت انتباه الجمهور جاءت على لسان محمد الطاهر السرايري، أستاذ باحث في العلوم الزراعية بمعهد "ْIAV" الخبير في المجال الفلاحي وقطاع الماء، الذي أوصى ب"مراجعة وإعادة نظر جذرية شاملة للسياسات الفلاحية المتبعة بالمغرب في أنظمة السقي وأنماط الإنتاج"، بحكم أن "الاستهلاك الفلاحي للماء يمثل 89 في المائة من الطلب على المادة الحيوية ببلادنا". وأكد السرايري، في حديثه خلال الندوة، أن "الطبيعة تُرسل لنا إنذارات وإشارات دالة وجَب أن نُحسن قراءتها قبل فوات الأوان؛ بعد استمرار الجفاف للسنة السادسة تواليا بالمغرب الذي كان معروفا إلى عهد قريب بالوفرة المائية"، موصيا بأن "السياسات المائية لاستعمالات الفلاحة والزراعات باتت تَستلزم تقنين اللجوء إلى المياه الجوفية المستخدمة في السقي، لا سيما بالضيعات الفلاحية الكبرى". وانتقد الخبير الزراعي ذاته "تحول النموذج الفلاحي المغربي من الاعتماد على زراعات الحبوب والقطاني والإنتاج الحيواني (المشكلة بحسبه للدورة الفلاحية المعتادة) إلى استبداله بالتقنيات الحديثة المستعملة في تطوير إنتاج فلاحي موجه أساسا إلى التصدير"، معلقا بالقول أن "الطبيعة أثبتت تفوقها وأن لها اليد العليا على التقنية". ومن بين ما أوصى به السرايري صانعي السياسات الفلاحية ب"اعتماد تصور حماية السيادة الغذائية كعنصر أساس في السياسات الفلاحية بالمغرب"، قبل أن يشدد أيضا على "ضمان استعمال موارد مائية متجددة"؛ ما يتطلب، وفق تصوره، "مراجعة جذرية للدعم العمومي المقدم للقطاع الفلاحي وأنشطة زراعية تستعمل مياه الأمطار والسدود"، مستحضرا ضرورة تمتع المسؤولين ب"حِس مواطناتي عالٍ لإدراك أن التقنية لا يمكنها التغلب على تقلبات المناخ والطبيعة". "ما زِلْنا في بداية أزمة الماء" الخبير الزراعي أكد، ضمن معرض مداخلته، أننا "ما زِلْنا نعيش سوى بداية أزمة الماء بالمغرب، وهو ما تؤكده إشارات طبيعة مُنذرة؛ أبرزها نضوب المياه خاصة بمختلف الأحواض والمدارات السقوية الرئيسية"، موردا أن "التخطيط المائي يجب أن يَسبِقَ السياسة الفلاحية؛ وهو ما تفطنا إليه بشكل متأخر نسبيا، لندرك أن الطبيعة أعادَتْنا إلى حقيقة مفادها عدم الاستمرار في استنزاف الموارد المائية خاصة الجوفية". ودعا السرايري إلى "نجاعة استعمال المياه حسب المجالات الجغرافية المتنوعة (فمنطقة الغرب مثلا ليست هي سوس أو الجنوب الشرقي بالواحات)، مستحضرا "نتائج دراسات تُثبت أن الري بالتنقيط يجعل فلاحين يسقُون محاصيلهم أكثر من الحاجيات المطلوبة". وأقام الخبير ذاته ربطا دالا بين "إشكالية الإجهاد المائي الهيكلي" و"أهمية السيادة الوطنية في الحبوب والزيوت والسكر التي مازلنا نستوردها كمواد من الخارج"، داعيا إلى "التحلي بالجرأة لإقرار منع الزراعات الدخيلة المستنزفة للمياه". وبينما اعتبر أن "قرارات من قبيل منع الحمامات أو محلات غسل السيارات لها أثر نسبي محدود لتقليص المشكل"، سجل الخبير المائي نفسه أن "استهلاك الماء في الفلاحة يلزمه مراجعة مستعجَلة، قبل أن نعاني مشكل عجز ونضوب الفرشة المائية؛ ما أوصلنا إلى تحلية مياه البحر" (جهة سوس ماسة كمثال). أهمية التخطيط المائي اللقاء العلمي لم يغب عنه خبراء مختصون في مجال تدبير الموارد المائية أبرزهم شرفات أفيلال، خبيرة دولية مختصة في مجال الماء، التي أبرزت أن "الأمن المائي مرتبط بمسألة وتحديات تحقيق السلم العالمي، أي مباشرة بسيادة الدول ومستقبل وجودها"، معتبرة أن "تصدر الماء للنقاش العمومي بالمغرب يجب أن يستمر حتى في زمن الوفرة والسنوات الماطرة التي يجب ألا تنسينا بنيوية الأزمة المائية غير المسبوقة". وبينما أكدت الوزيرة السابقة المكلفة بقطاع الماء 2013-2017 أن "الماء بات يستحوذ على استثمارات عمومية ضخمة"، استدركت بأن "المغرب على مستوى تدبير الطلب على الماء لم يُحقق الكثير"، لافتة إلى أن "التخطيط القطاعي من وزارة الماء يستدعي حكامة خاصة وتتبعا مع ضمان التقائية للسياسات؛ لأن الكل مسؤول عن الوضع لأن الماء بطبعه إشكال معقد ومركب". وأوردت الخبيرة الدولية في الماء توصية "الاستثمار بشكل أكبر في البنيات التحتية"، خاصة بالذكر "تجديد قنوات مائية متهالكة تتسبب في ضياع أحجام كبيرة"، قبل أن تشدد ثانيا في الدعوة إلى "تقنين اللجوء إلى الماء مع تحديد الكميات المخصصة للسقي بالنسبة إلى الفلاحين ودفعهم نحو أقْلَمة وتكييف المزروعات مع المتوفر". واستدلت أفيلال ب"تقارير الخبراء الدوليين، التي كانت طيلة العقد الأخيرة حاملة لإنذارات، تؤكد أن سياق التنمية ونمط الإنتاج والاستهلاك لا بد من مراجعته وأخذ التقلبات المناخية على محمل الجدية"، داعية إلى "عدم تبخيس القيمة والكلفة الاقتصادية للماء". "هذه الأزمة المائية كانت مرتقبة وليست بمفاجئة ونحن نبهنا لها مرارا"، أوردت أفيلال معتبرة أنه "يجب ألا نُرجح منطق تشجيع عجلة الاستثمار والقيمة المضافة الاقتصادية للفلاحة التصديرية وفرص الشغل على عطش المواطنين المغاربة"، منبهة إلى "سوء حكامة في توزيع الموارد المائية وعدم تنسيق الاستعمالات". كما لم يفتْها أن تدعو إلى "تفعيل أكبر لدور شرطة المياه وتعزيزها بالأطر اللازمة لإيقاف آفة الاستهلاك غير المرخص للمياه الجوفية باعتبارها مخالفة قانونية تستوجب المتابعة القضائية". الماء والاقتصاد آخر المداخلات جاءت على لسان يوسف كراوي الفيلالي، خبير اقتصادي وباحث في مجال الماء، الذي نبه إلى "خطورة الكلفة الاقتصادية الناتجة عن الجفاف نظرا لاعتماد الاقتصاد المغربي على الزراعات التصديرية من خضر وفواكه مُنهِكة للفرشات المائية الباطنية". وأثار الخبير الاقتصادي ذاته الانتباه إلى أن "تداعيات الأزمة المائية الأصعب منذ 40 سنة بالمغرب تُفاقِم مستوى البطالة، لأن أغلب المناصب المفقودة في القطاع الفلاحي؛ ما ينتج عنه هجرات داخلية قروية ومناخية اضطرارية". وتابع كراوي الفيلالي داعيا إلى التفكير في استعانة السياسات العمومية ب"حلول مبتكرة من الشباب الحاملين لمشاريع فلاحية مستدامة"، خالصا إلى أن "كلفة تحلية مياه البحر لكل متر مكعب ستكون مرتفعة إلا إذا حاولنا تقليصها باستعمال الطاقات المتجددة خاصة الشمسية".