لا يتعلق الأمر هنا بترجمة حرفية أو بترجمة بتصرف للقولة الفرنسية الشهيرة "les femmes ď abord"، بل هو مجرد استحضار لقصة قصيرة جدا، كتبتها ذات يوم احتفاء بكتاب "الجنس الثاني" لصاحبة سيمون دي بوفوار، سميتها "نكاية" ونشرتها في مجموعتي القصصية، التي تنتمي إلى جنس القصة القصيرة جدا، والتي كنت قد عنونتها ب "تسونامي"، ولأن المناسبة شرط كما يقول الفقهاء، فالعيد العالمي للمرأة، الذي يحتفل به العالم أجمع استحضارا وتذكيرا بالدور القوي الذي تمارسه المرأة في الحياة، وللعراقيل التي تواجهها في حياتها اليومية. كل ذلك لا يمكن إلا أن يذكرنا بكل حرف خطته أيدينا عن هذا الكائن، الذي يجمع ما بين الهشاشة والصلابة، وهو الذي يحمل بين يديه المبسوطتين على الدوام ثقل العالم وهمومه، ويتحمل تعبه وضنكه، ومع ذلك لا يلقى منه في المقابل غير الجحود والنكران. أقول في تلك القصة القصيرة جدا: "منحني الظهر، منشغل البال، كان سارتر يمضي حثيثا، شابكا يديه وراءه، وهو لا يمل من ترديد لازمته الأثيرة: "الوجود أولا.. الوجود أولا..". نكاية فيه كانت سيمون دي بوفوار، عن كثب، تقتفي خطواته، بعبوس وتحد ظاهرين، وهي تردد بإصرار: "المرأة أولا.. المرأة أولا..". لم تكن هذه القصيصة يتيمة في ما كتبته احتفاء بالمرأة، بل رافقتها قصص قصيرة وروايات ومسرحيات من فصل واحد، ومقالات، كتبتها في مناسبات متعددة ومتفرقة، ومنحت فيها المرأة صوتا لتعبر عن نفسها وعن همومها ومشاغلها كذات فاعلة، أو على الأقل يتجسد حضورها في النصوص كشخصية مساعدة أو ثانوية، تلقي وجهة نظرها -كباقي الشخصيات- في مواضيع شتى، منها ما هو ذاتي يتعلق بها شخصيا، ومنها ما هو موضوعي، يمس قضايا اجتماعية وثقافية وإنسانية عامة، غالبا ما تكون المرأة طرفا فيها ولو من باب من الأبواب، فهي في تقديري جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، بل أكاد أقول إنها تمثل علته الأولى، بلغة المناطقة، لذا أرى أن حضورها لازب، وواجب الوجوب في كل مظاهر الحياة الواقعية أو التخييلية، وتمثل أوج هذا الاحتفاء بالمرأة في السيرة الروائية "حب وبرتقال" التي سجلت فيها ذكرياتي مع أروع امرأة في حياتي، ويتعلق الأمر بأمي، التي مازال الحبر الذي كتبت به الرواية طريا، يكاد يخضب أصابعي بحنائه المميزة. كتبت هذه الرواية/ السيرة بكثير من الحب وبقلب خافق مرتبك كعصفور فاجأته السماء بقطرات الغيث في أول طيران له بعيدا عن عشه الدافئ، فكان أن دلقت أحاسيسي الطرية محتفيا بأمي ومن خلالها بالمرأة المناضلة، التي تبذل الغالي والرخيص من أجل أن تجعل من أبنائها وبناتها رجالا ونساء يقدمون لأنفسهم ولمن حولهم كل ما يستطيعون من أجل عالم أفضل للجميع، سجلت فيه تلك اللحظات المميزة لأي كانت فيها أمي لي سندا قويا، يسعفني على شقي مساري في الحياة رغم الصعوبات الجمة، والعراقيل الكثيرة، وقد لقيت هذه الرواية احتفاء من القراء، وكتبت عنها مقالات نقدية محتفية بثيمتها وبأسلوبها، وبالبعد الرمزي لها كاحتفاء مستحق بكائن يستحق منا جميعا كل الامتنان. بعد أن مرت مياه كثيرة من تحت الجسر، إذ انقضت الآن عشر سنوات عن كتابتها ونشرها، فمازلت أتذكر ذلك الإهداء الذي افتتحت به الرواية وكأنني أكتبه اللحظة باثا فيه احترامي وتقديري للمرأة ممثلا في الأم وقد قلت فيه: "هذه أمي كما عرفتها وأحببتها.. وباسمها أهدي ما خطته يداي في هذا الكتاب إلى جميع الأمهات، اللواتي يهبننا الحياة، ويسعين جاهدات ليقدمن لنا العالم كغنيمة حرب، نتصرف فيها- في كثير من الأحيان- برعونة، غير عابئين بما تكابده تلك الجنديات النبيلات من أجل أن ننعم بتلك الهدية". بمناسبة عيدها العالمي أقف لك إجلالا واحتراما وتقديرا أيتها المرأة الممسكة بالجمر في البيوت والبوادي والجبال والشعاب والحقول والمصانع والمدارس والمختبرات، محاولة دوما أن تمنحنا ما تحرم نفسها منه من رغد العيش والحلم من أجل تحقيق غد أفضل بالتأكيد هي وقوده وشمعته التي تحترق من أجل أن تضيء دربه لنا، كي نمضي فيه بخطى واثقة رغم الإحباطات المتناسلة كالفطر. فللأسف الشديد مازالت المرأة حتى يومنا هذا تجادل في احقيتها بامتلاك كيان مستقل وحر، لا يتدخل فيه أحد ولا يفرض عليه الوصاية باسم الأعراف حين والدين حينا آخر والثقافة السائدة أحيانا عديدة. تحياتي لك سيدتي وكل عيد وأنت قدوتنا في الصبر والنضال ونكران الذات.