ما ظُلم فن في الزمن المعاصر كما ظُلم الشعر؛ فقد كان فرسا جامحة، لا يمتطيها إلا نبلاء المعرفة العالية، من صلاح عبد الصبور وأدونيس ومحمود درويش وفدوى طوقان، وسعدي يوسف، وأمل دنقل، وأحمد المجاطي وآخرين من سنخهم... ولكنه في العقود الأخيرة صار برذونا يمتطيه كل من آنس من نفسه تركيب جمل منخورة من جمال البلاغة، وروعة التخييل، وبكارة اللغة، ودقة الإيقاع وفتنته؛ مما دفع المتلقي إلى ازدرائه والهروب منه، بعد أن كان المؤسس الأول للمعرفة العليا. ولو كان الشعر خارج الإيقاع لكان العدم أحق به؛ فهو أسُّ الوجود بكل مكوناته، لأنه مبنيٌّ عليه، ولا جدال في أن كل ذات من الذوات لها إيقاعها الخاص الذي هو بمثابة ضوئها. وليس في مكنة أي ذات أن تخرج عن الإيقاع، وإلا بقيت مظلمة. وهكذا النصوص التي تسعى إلى الحصول على شجرة النسب الشعري لا محيد لها عن هذا الإيقاع، إن هي أرادت الحياة، وإلا أمست جثة باردة مُظلمة، لا ضوء لها، ولا فيها، تخال أنها تعبُر الزمن، والزمن لا يراها. فالإيقاع أسيٌّ في الكون بإطلاق، ومن البدهي أن في الكائنات أنغاما تؤسسها وتبدؤها، وتبعث فيها لا قوة التوازن الأبدي فقط، بل القدرة على أن يساند بعضها بعضا، وتلك هي العلة الكينونية للشعر، وهي – حسب تتبعنا- ما لا يتوفر لأي فن من الفنون غير الغناء والرقص والموسيقى اللائي هن شقيقات الشعر التوائم. فالإنسان يبدع الشعر ابتغاءَ مرضاة الكون، وابتغاءَ الاندغام فيه جوانيا، وصيانةِ المطلقات المتعالية من التلوث بأنفاس العجل الذهبي؛ فهو، قبل غيره، الذي يوازن بين أنفاسنا وأنفاس الكون الذي يتنفس من حولنا بجوانيته الخاصة. ففي قلب كل شعر سام تكمن جوهرة، والشاعر لا يعانق إلا الجوهر في زمنه، ومن ثمة كان الشعر نقيض ما هو عرَضي، والشاعر حين يرقص وجدانا وفكرا فإنه ينسحب من مملكة الرياء، ويثبت أنه إنسان يرفض التسفُّل، ويستهدف غسل الروح في الينبوع الأزلي. إن معايير الشعر الأسمى هي معايير محتويات النفس البشرية في صفائها وكدورتها؛ فالشعر استمرار للنظام في اللغة، وللإيقاع في الكون، يتفوق على الرسم والنحت والرقص، وكافة الفنون الصامتة.. وله أفضلية على الموسيقى، لأنه يحتويها دون أن تحتويه؛ فهي تجريد، بينما هو يصالح بين برهتين متعارضتين لا تملك الموسيقى أن تصالح بينهما أو توحدهما، فاتحاد برهة التجريد وبرهة التجسيد متعذر عليها تعذر استحالة. فالشعر في نسيجه يلم كلا من الموسيقى والرسم والنحت، ولا يفلت من يده غير الرقص.. ولكن اللغة توفره له متى كانت دواخل قائله صوفية تؤلف بين المتعارضات، فترفع المجسدن إلى المطلق. ونحن نعتقد أن كونية الشعر، وعلو مقامه على الفنون، ترجع إلى أُسية الصوت، واتخاذه ينبوعا بؤريا للعقل والوجدان، رغم أن النثر هو أيضا صوت. فلمَ كان الشعر فوقه؟ لأنه مفتقر إلى الموسيقى الأغزر التي توقظ في الزمن الداخلي للإنسان الحنين إلى الجذور الأولى للوجود، وبلا شك نعلم أن في النثر نظاما وموسيقى، ولكنهما إضافيان لا يُولجان في نسيج الشعر، فالنغمة الداخلية الحاملة للانفعال، والمسهمة في التعبير عن الداخل هي مِلك الشعر وحده، لأنه يزاوج ويدغم صائتين متباينين: اللغة والموسيقى، الشيء الذي يعجز عنه النثر بكل وضوح. ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن من يدّعون الشعر خارج الإيقاع هم أشبه بمن يشرب الماء من السراب، فهم يميزون بين الشعر والنثر من موقع لا يعطي موسيقى الشعر كبير وزن، وكبير اهتمام، فهم يذهبون إلى أن لغة الشعر مشوشة ومهيَّمة مائجة، أما لغة النثر فسديدة ومستقيمة، تقصد الهدف قصدا، وبخاصة إذا كان انهمامها باليومي. ومن أعلى ذروة يقيننا نصرح بأن ما يطلق عليه "قصيدة نثر" ما هو إلا زور يريد أن يلتصق بالشعر، وهو ليس منه في شيء، حتى وإن تكن لغته مجنحة، ومشوشة، ومهيمة، فالشعر لغة وجدانية منغومة بأنغام مكونات الوجود التي لا يملك النثر مثلها. وإنا لننفر من ذاك الذي يسمونه شعرا بالنثر، ومن ذاك الذي يعرضونه مترجما؛ فالشعر لا يترجم، وإذا ترجم صار في طريق النثر، ولن يكون شعرا عندنا إلا إذا قرأناه في لغته، فالشعر هو بؤرة إيقاعات الكون ومتخيَّل استيهاماته ومحلوماته.