للإبداع دور ليس للسياسة ، فبقدر ما تعتبر هذه الأخيرة لعبة قذرة، فإن الأول يفترض فيه أن يكون نقيا طاهرا ناصع البياض لا تشوبه شائبة، وبقدر ما للسياسة عيون تغمضها لما تريد ، وتفتحها لما تريد، حسب الظروف وحسب المصالح، فإن عيون الإبداع أو المبدعين لا تغلق أبدا في الليل والنهار، ومهما تبدلت الألوان السياسية، ومهما كانت حربائية فإن الإبداع يظل بلون واحد ، لون الشعب الذي لا يتغير في كل زمان ومكان، ولون الأخلاق، ولون المبادىء الأبدية الناصعة البياض ولون الضمير الصاحي الذي يحرس الأخلاق خوفا من فقدانها بوصلة الطريق السليم، إن الإبداع عيون الشعب التي يرى بها وآذانه التي يسمع بها، لذلك كان من المفترض أن تكون للمبدعين آذان طويلة يطلقونها في كل الدروب والزوايا ، مهما كانت منزوية في أماكن لا تصلها آذان السياسيين المصابة في الغالب بنقص في السمع ، فعلى المبدعين أن يلتقطوا أصوات المحزونين والمحرومين ويقدمونها لهؤلاء السياسيين وللعالم في قوالب تبديها في أحجامها الحقيقية، تجعل من البحث عن حلول لها أمرملزم للجميع . للمبدعين آذان تمكنهم من تسمع كل الأصوات ، مهما كان خفوتها فعليهم أن يلتقطونها ، أن يبحثوا عن مصدرها ويعرفون ما تخبر به وما حاجتها ، هل هي شكوى أم أنين أو فرح؟ إنهم مطالبون بتبليغها بطرقهم الخاصة، فهم يلعبون دور المترجم ،لكن ترجمتهم ليست حرفية، فهم يترجمون ويضيفون لهذه الترجمة لمستهم أو بهاراتهم الخاصة، ليقدمونها في قوالب جمالية تجعل التأثير أكبر،يقدمون ما هو كائن وما يمكن أن يكون. يصوغون الواقع ببراعة، ويقترحون لون المستقبل، واقتراحاتهم دائما تكون بألوان الربيع والرياحين وقوس قزح ، ويتنبئون كالعرافات بشكل هذا المستقبل وبألوانه، ويحددون هل ستكون ألوانه زاهية أم أشد قتامة مما هو كائن،بناء على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تعرفه المرحلة التي يعيشونها وليس تخمينا فقط، وفي الغالب تكون تنبؤاتهم صائبة. ولو طبق بالحرف ما يقترحه المبدعون والمثقفون كل بوسائله الخاصة لانعدمت الحروب والجشع والفقر والفوارق الطبقية ولعشنا في مجتمع مثالي . تعيش السياسة واقعا متحجرا لا ينبت عشبا ولا شجرا، ويعيش الإبداع واقعا متفجرا جمالا وحيوية، مهما كانت قتامة ما ينقله المبدعون . ولو كان أنينا أو شكوى أو بؤسا ،يمنحونه جمالا خاصا لإظهار حجمه الحقيقي بعد إفراغه في قوالب جمالية تمنحه ألقا ورونقا، يضيفون من روحهم ومن وجدانهم ومن رصيدهم الخاص من الآمال والآلام،حتى يتسنى لهم إيصال صوت من لا صوت لهم ،يصوغون ما هو روحاني وما هو مادي في قالب واحد. للسياسيين فترات خاصة يزدهرون فيها ويعلو شأنهم، لكن المجد يتخلى عنهم لما ينزلون من كراسيهم، أما المبدعون فيظل المجد لصيقا بهم ، حتى وإن كانوا فيه من الزاهدين، وما أغلب الزاهدين فيه عبر التاريخ ، يزداد هذا المجد بموتهم وتزداد قيمة أعمالهم، كالخمر المعتقة التي تزداد قيمتها بقدمها، وتزداد قيمة أعمالهم مع مرور الزمن نتيجة المسافات الجمالية التي تفصل أعمالهم عن عصرهم. فهل عندنا يقوم المبدعون بدورهم كاملا؟ أم تستقطبهم أضواء السياسة كما الفراشات التي يجتذبها اللهب، فتحترق أجنحتهم ويصبحون عاجزين عن القيام بما يجب في الواقع أن يعملوه وتصبح أعمالهم هجينة، ويقلدون الساسة في إغماض عيونهم، وعدم إطلاق آذانهم إلى مداها، فينقص سمعهم بالنتيجة، ويمالئون السياسيين ويتمسحون بهم فيملي هؤلاء ما يخدم مصالحهم فيصبحون بالنتيجة أبواقا لهم مقابل مصلحة آنية تخدمهم وحدهم وليس الشعب الذي له انتظاراته . لكن دائما هناك مبدعون غير قابلين للبيع والشراء ولا تجذبهم الأضواء مهما كانت قوتها ،فتظل أجنحتهم سليمة يطيرون بها حيث شاءوا وأنى شاءوا، يطلقون آذانهم في كل الدروب والزوايا،يلتقطون أنات المحزونين بآذانهم ويلتقطون بعيونهم القبح والجمال ويقدمونه لنا محملا بالكثير من الطلاوة والجمال، تعلو أصواتهم دون خوف أو وجل، وهؤلاء من اختارهم المجد ليرفعهم أحياء وأمواتا لأنهم يظلون خالدين بأعمالهم وبما قدموه لشعوبهم ولأممهم ولأوطانهم. [email protected]