لا يملك المطلع على وسائل الإعلام في المغرب إلا أن يفغر فاه من شدة وهول مفارقات الأخبار التي يقرأها في الجريدة الواحدة، وهو الأمر الذي قد يصيب القارئ بأمراض عضوية أو نفسية تعتبر وزارة الصحة ومستشفياتها في غنى عنها، خصوصا مع مشاكل القطاع والخصاص الذي يعانيه. في الأسبوع الأخير، نقلت جريدة "أخبار اليوم" المغربية خبرا مفاده أن كريستينا (أصغر بنات ملك إسبانيا) ستمثل أمام القضاء الذي يشتبه في مساعدتها لزوجها في قضية التهرب الضريبي وتبييض الأموال، ووصف رئيس الديوان الملكي القضية ب "العذاب" لشدة ما تعانيه العائلة المالكة من جراء هذه القضية. وفي المقابل، نقرأ في الجريدة ذاتها أن مستشارا جماعيا في مدينة أصيلة صدر في حقه حكم نهائي بضرورة إمضائه لعقوبة سجنية نافذة، لكنه حر طليق، بل الأدهى من هذا أن القناة الثانية بثت تصريحا له يوم الثلاثاء الماضي في نشرتها الرئيسية بصفته رئيسا لإحدى الجمعيات ومناضلا في صفوف نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب. لم يتحدث أحد في الجارة الإيبيرية عن طابوهات أمام القضاء، ولم تجد العائلة الملكية هناك – رغم ما تعانيه من عذاب – بُدّاً من احترام القضاء، وإذا ما توجهنا جنوبا نحو أجمل بلد في العالم نجد من يحتقر القضاء ومقرراته ولا يلتفت إلى تطبيق أحكامه، بل نجد من يعمد إلى تكريم الفارّ منه وتقديمه في القنوات العمومية – التي يمولها دافع الضرائب – على أساس أنه مناضل مدافع عن المظلومين. وإذا كانت النازلة المذكورة تبين بجلاء كيف يتعامل المغرب والمغاربة أمام القضاء وأهله، فإن القضاة المغاربة صنعوا الحدث في الأسبوع الأخير، حيث قرر "نادي قضاة المغرب" القيام بوقفة احتجاجية أمام وزارة العدل والحريات يوم 8 فبراير، مطالبين باستقلال السلطة القضائية ومنددين بالتراجعات التي تضمنتها مسودتا القانونين التنظيميين للقضاة وللسلطة القضائية، وهو الحدث الذي سنتناوله من خلال الإلماعات والإشارات الآتية : أولا : عقد وزير العدل مع بعض أطر الوزارة ندوة صحفية ردا على قرار النادي، صرح خلالها أن خروج القضاة إلى الشارع بالبذلة خرق سافر للقانون، ومس بالوقار والكرامة التي تتطلبها المهنة القضائية السامية، ودعا القضاة المحتجين إلى اللجوء إلى الملك. هذا كلام الوزير بنصه، وهو منقوض جملة جملة، إذ من العسير إقناع الناس أن القضاة - وهم أهل القانون - سيقدمون على خطوة تعد خرقا سافرا للقانون، ولو كان هذا التكييف سليما، فإنه يحق لنا أن نتساءل : أين كان الوزير لما وقف القضاة أمام محكمة النقض بالبذل أيضا ؟ ولماذا لم يطبق القانون آنذاك على من ارتكبوا "الخرق السافر" ؟ وما هي النصوص القانونية التي تجرم الاحتجاج بالبذلة ؟ أما مسألة المس بالوقار والكرامة فلا وجود لها إلا في مخيلة الوزير ومن معه، لأن الاحتجاج بالبذلة أمر سائغ معمول به في عدد من دول العالم، سواء في أوربا شمالا أو في إفريقيا جنوبا، وشارك في هذه الوقفات قضاة كبار مشهود لهم بالتكوين العلمي والاجتهاد القضائي، ولم يقل أحد منهم أو من وزرائهم أن هذا الاحتجاج مس بالوقار والكرامة، لكن، ما حيلة الأستاذ الرميد إلا أن يقول ما قال ؟ وقد عهدناه يخرج عن حدود اللباقة في لحظات الشدة، ولن ننسى بيانه الذي أصدره بعد الوقفة الاحتجاجية الأولى للقضاة الذي ضمّنه عبارات جارحة، مثل "ليس كل من حضر الوقفة منسوبا للصلاح والنزاهة". أما دعوة القضاة إلى اللجوء إلى الملك فهروب إلى الأمام، ودفع بالصدر كما يقول علماء الجدل والمناظرة، والأستاذ الرميد يعلم قبل غيره أن القوانين التنظيمية الماسة باستقلال القضاء لم تصدر عن الملك ليلجأ إليه القضاة، بل هي ستصدر عن الحكومة وستناقش بالبرلمان، لذا يجب الاحتجاج على كل من يسهم في إصدار مثل هذه القوانين، أما الرمي بالكرة في ملعب الملك فمزايدة من الوزير لا أقل ولا أكثر. ثانيا : رفع القضاة مطلب استقلال القضاء في ثورتهم هذه، وهو مبدأ كوني، بل هو أس الديمقراطية وعمادها، وكان حريا بالقضاة أن يجدوا في صفهم وإلى جانبهم كل الأحزاب السياسية، على اعتبار أنها منظمات تنشد الديمقراطية، وتطالب باستقلال القضاء في برامجها ومشاريعها، لكن قادة الأحزاب نذروا للرحمن صوما، ولم يكلموا إنسيا، فأجمعوا على بلع اللسان، وترك الكلام، وكأنهم لاعبون بمدرب واحد يمتثلون لنصائحه ووصاياه. ألم تُصدر الأحزاب السياسية المغربية عدة بيانات حول الانقلاب العسكري المصري ؟ بل ألم تتحرك الأحزاب المغربية لمجرد نكتة أبي زيد المقرئ ؟ ألم تصدر عن الأحزاب موجة من البيانات حين حصر بنكيران الشرعية في أربعة أحزاب أثناء حديثه في مؤتمر الحركة الشعبية ؟ كيف تعاملت الأحزاب المغربية حين لجأ أفتاتي ذات يوم إلى السفارة الفرنسية ؟ إنها أحداث كثيرة حركت الأحزاب من سباتها، لكن استقلال القضاء لم يستطع إيقاظها، فهل هي حقا مع استقلال القضاء ؟ أم أن قيادييها لا يستريحون إلا في ظل قضاء غير مستقل ؟ لم يتحرك من التنظيمات السياسية سوى اثنين : حزب الطليعة اليساري الذي حضر رئيسه ورمزه النقيب عبد الرحمن بن عمرو مع القضاة مساندا لهم ومؤازرا، وجماعة العدل والإحسان الإسلامية التي حيّت بحرارة مطالَبة القضاة باستقلالية القضاء، وتضامنت مع النادي ونددت بخرق حقهم في التظاهر السلمي. ثالثا : لعل أغرب موقف حزبي حول الثورة القضائية، هو موقف حزب العدالة والتنمية، حيث لم يبق صامتا كسائر الأحزاب، وليته فعل، بل رفع صوته عاليا رافعا شعار "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" بمفهومه الجاهلي، ولنا أن نقرأ ما نشر في جريدة "أخبار اليوم" ونصه : "عبرت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، بالإجماع عن دعمها لمصطفى الرميد وزير العدل، ضد ما وصفته قيادة الحزب ب "تغول القضاة" على السلطة التنفيذية. وعبر معظم قادة الحزب خلال الاجتماع الذي عقد أول أمس بالرباط، عن دعمهم للرميد الذي اعتبر احتجاج القضاة ببذلتهم الرسمية في الشارع مسألة "غير مسبوقة". وأفادت مصادر في قيادة الحزب أن البيجيدي قرر"الوقوف بصرامة وبلا تردد إلى جانب أي خطوة يتخذها الرميد وزير العدل"، معتبرة أن الحزب وصف ما يقوم به القضاة بأنه «تغول للقضاة» باسم السلطة القضائية على السلطة التنفيذية. كما اعتبر الحزب أن نادي القضاة، بدأ يتحول إلى نقابة، تعترض طريق الإصلاح الذي تقوم به وزارة العدل. وقال قيادي في الحزب ل"أخبار اليوم"، إنه إذا أصر نادي القضاة على الخروج للشارع ببذلة القضاة، فإن الحزب سيؤيد أي موقف صارم من الحكومة ضدهم"، وبما أننا لم نقرأ بيان حقيقة صادر عن الحزب ينفي ما نسب إليه في هذه القصاصة، فإننا نعتقد بصدق محتواها، ونلمس من خلاله "تغول" حزب سياسي، عانى من المنع والتضييق ذات فترة، ويريد أن يُذيق غيره من نفس الكأس التي تجرع منها، لذلك دعا إلى الوقوف بصرامة ضد من يطالب باستقلال القضاء بدل أن يسانده ويدعمه في معركته المجتمعية هذه، كما اتهم الحزب نادي القضاة بعرقلة الإصلاح واعتراض طريقه، وهي تهمة جاهزة ترددها عادة الأحزاب الشمولية لسحق مخالفيها وتشويههم. رابعا : ادعى قياديو حزب العدالة والتنمية أن قضاة النادي من معرقلي الإصلاح الذي يقوده ذ. الرميد، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن وزير العدل يعمل جاهدا على قيادة المغرب إلى الوراء، وبدل أن يفرملوا تراجعاته، وقعوا له شيكا على بياض، ومن أمثلة التراجعات والانتكاسات التي يقودها الوزير المذكور ويدافع عنها : • تنص المسودة على أن الملك يعين الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها، وهما عضوان في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بل يعتبر الرئيس الأول رئيسا منتدبا للمجلس الأعلى. لعله من المعيب أن تتضمن قوانين صادرة في القرن الواحد والعشرين مثل هذه النصوص، لأنها تعتمد في إسناد المسؤوليات على أسلوب التعيين في المناصب الحساسة، ومعلوم أنه أسلوب لا يتماشى مع روح العصر، وكان حريا بالمسودتين أن تعتمدا في انتقاء المسؤولََيْن السابقين على طريق الانتخاب والاقتراع، أو عل الأقل الجمع بين الطريقتين، حيث تفرز الانتخابات ثلاثة قضاة لكل منصب، ثم يعين الملك واحدا لتحمل المسؤولية، ولنا أن نذكر بأن نادي القضاة كان أكثر تقدمية من الوزير ومن يدور في فلكه، حيث دعا إلى تبني طريقة الانتخاب، كما أن الوزير أخطأ موعده مع التاريخ، وله أن يتأمل بنود الدستور التونسي المصادق عليه أخيرا، حيث تقول المادة 106 منه : يسمى القضاة السامون بأمر رئاسي بالتشاور مع رئيس الحكومة، بناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء"، كما تنص المادة 112 منه على أن المجلس الأعلى للقضاء ينتخب رئيسا له من بين القضاة الأعلى رتبة. لذا ندعو الوزير ومن معه إلى التأمل والمقارنة، ثم الحكم على من يريد عرقلة الإصلاح والتقدم : هل الوزير أم النادي؟ • تحدد المسودة مدة عضوية القضاة المنتخبين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية في خمس سنوات غير قابلة للتجديد، في حين تحدد مدة عضوية الشخصيات المعينة في خمس سنوات، دون أن تمنع تجديد تعيينهم، وفي هذا تمييز غير إيجابي بين الانتخاب والتعيين، كان على حزب المصباح أن ينبه الرميد إليه على أساس أن هذا القانون بسلبياته سيسطر ضمن "إنجازات" حزبهم. • تنص المادة 36 من مسودة الرميد أن القاضي يُنَقَّل بناء على طلب منه أو على إثر ترقية أو سد الخصاص ...، ولست أدري كيف اقتنع مناضلو البيجيدي – وفيهم نقابيون كبار - بهذه المادة ودافعوا عن وزيرهم باستماتة، ولتوضيح هذه المادة، فإنه يمكن لقاضي من الدرجة الثالثة يشتغل في طانطان أن تتم ترقيته وتنقيله – بغير رغبة منه – إلى الرشيدية، كما يمكن بناء على المادة المذكورة أن يرقى قاضي الدرجة الثانية وينقل – بغير رغبة منه – من تطوان إلى ميدلت، مع ما يتبع ذلك من تفكك أسري وابتعاد الأب عن أبنائه خصوصا إن كانت الزوجة موظفة، وغير ذلك من التبعات، كما يمكن اتخاذ هذا المقتضى ذريعة لتأديب الخارجين عن طاعة المسؤولين القضائيين مع إعطائه طابع الترقية، ولنا أن نتساءل : ألا تمس هذه المادة في عمقها بمبدأ الاستقلال حيث يخاف القاضي من تطبيقها فيخضع لما يُملى عليه ؟ خامسا : يعمل المغرب جاهدا من أجل تحسين صورته في العالم، لكن إقدام باشا حسان على منع وقفة القضاة أظهر للعالم الوجه الحقيقي للمغرب، وهدم ما تم بناؤه، وأصبح الجميع يتخيل الطريقة التي تتعامل بها السلطة مع عموم المواطنين إن كان القضاة يُمنعون ويحرمون من أبسط الحقوق. لقد أضاع المغرب فرصة الدخول إلى نادي الديمقراطية والحريات مرة أخرى، لأن أسهم المغرب في بورصة هذا النادي كانت سترتفع لا محالة لو أن الرميد لم يتبورد على القضاة، لكن : ما كل ما يتمنى المرء يدركه ** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن * أستاذ