يحار أولياء أمور التلاميذ و التلميذات في توجيه أبنائهم ، أيوجهونهم إلى التعليم الخصوصي ، أم إلى التعليم العمومي ، فإذا كان الأخير ملاذا لذوي الطبقات المسحوقة و الدخل المحدود ، بما أنهم لم يجدوا بدا من المدرسة العمومية ، فإن أبناء الطبقات المتوسطة من الموظفين و أصحاب المداخيل الشهرية التي تفوق 5000 درهما يسعون إلى توفير أكثر من نصف مداخيلهم لفلدات كبدهم ، فتجدهم حيارى إما في الصبر على غلاء متطلبات التعليم الخصوصي ، أو تحمل الهنات التي يعيشها التعليم العمومي ، و المغامرة بأبنائهم داخل أجنحته ، و يبقى أملهم في الأخير في وصول أبنائهم إلى تحقيق تعلم جيد ، يسعفهم في الدراسة بعد البكالوريا ، و حيازة شهادات تمكنهم من دخول سوق الشغل في أحسن الظروف و الأحوال . يثبت أننا ما زلنا نعاني نقصا كبيرا في تحديد تصور محدد مبني على معايير مضبوطة حول المدرسة العمومية و الخصوصية ، فأغلب الأسر بمختلف هرميتها الطبقية ، تتبنى تصورات مجانبة في كثير من الأحيان للصواب حول تحديد تصور واضح و صريح بين المدرسة العمومية و الخصوصية ، فالمدرسة بشكل عام هي مجال لنقل مجموعة من المعارف و المهارات و الأهداف التي تمس سلوك التلميذ لنقله من طفرة سلوكية إلى أخرى ، و من ثم تُمحى أي فوارق مبنية على أسس شوفينية بين المدرسة العمومية و الخصوصية ، بما أنهما قد أنيط بهما تقديم تعلم ينمي الملكات الفكرية للتلاميذ و التلميذات ، بيد أن الاختلاف الحاصل بينهما يكمن فقط في المجال المكاني الذي يحصل فيه التعلم ، فشتان بينهما ، و هو ما يخلق الفرق ، و هو ما يجعل بعض التلاميذ قادرين على تحقيق نمو مطرد في التعلم ، فالمدرسة الخصوصية توفر إطارا مكانيا مناسبا للتعلم بخلاف المدرسة العمومية ، التي تعاني هشاشة في البنيات التحتية ، خاصة في العالم القروي ، بالإضافة إلى قدرة المدرسة الخصوصية على تتبع التلاميذ و التلميذات ، و إتاحة فرصة الاهتمام بهم ، و اطلاع أسرهم على أوضاعهم الحقيقية ، بخلاف المدارس العمومية التي تعرف كثير من مؤسساتها عبثية في التسيير ، و عشوائية في التتبع ، إلا إذا تصدت لها حالات فردية تقوم بها الأطر الإدارية و التربوية النزيهة . هناك أصوات أخرى تشدد النكير على تكاسل بعض الأطر التربوية في القيام بمهامها داخل المؤسسات العمومية ، بخلاف اجتهادها في المؤسسات الخصوصية و دُورِ ما يسمى بالسوايع ، و هذا أيضا عامل لا يمكن إبعاده ، لكنه ليس عاما على أي حال . إذاً تبقى الأسر تائهة بين المدرستين ،لكن وجب عليها العلم بأن لكليهما اعتبارات خاصة ، يجب عدم تجاهلها ، فالنسبة إلى المدرسة العمومية ، و رغم حالة التخبط التي تعانيها ، لكن تبقى لها مزاياها الخاصة، فبعض الشخصيات التي تبصم أسماءها في الوطن كانت خريجة نجيبة للمدرسة العمومية ، و كابدت اعوجاجاتها الكثيرة ، و أصرت على الوصول ، فحققت ما تصبو إليه ، كما أن أعلى النقط ، سواء وطنيا أو جهويا ، يحصل عليها في مرات كثيرة تلاميذ التعليم العمومي ، و كلنا يتذكر وجه التلميذ الملتزم أحد أبناء نواحي دكالة الذي حصل على أعلى نقطة في امتحانات البكالوريا ، و هناك حالات كثيرة لتلاميذ و تلميذات حققوا نتائج مبهرة ، و كانت تنتمي إلى المدرسة العمومية . أما بالنسبة إلى المدرسة الخصوصية ، فلها أيضا مزاياها التي تجعل أولياء الأمور لا يجدون عنها سبيلا ، لما توفره من سياقات مكانية مناسبة للتعلم ، و من موارد بشرية دؤوبة في العمل ، و لا يمكن أبدا إنكار خروج تلاميذ نجباء من رحم هذه المدارس ، لكن الإنكار الذي يحصل عليها يتجلى في ما يسمى بنفيخ النقط الذي يحصل عليه المتعثرون فيها إذا قورنوا بالمتعثرين في المدارس العمومية . وجب على الأسر الوعي أن مناط التعلم بيد التلاميذ و التلميذات ، فإذا وجدت الحافزية للتعلم لديهم، و الرغبة في التحصيل ، فأينما وُضعوا ، سواء في العمومي أو الخصوصي ، فسيحققون نتائج طيبة ، هذا ما يسميه الباحثون بالتعلم الذاتي ، الذي هو أساس كل تعلم ناجح ، فالتلاميذ في كلا المؤسستين يدرسون نفس المقررات ، و بنفس المناهج ، مع اختلافات طفيفة في تكريس اللغات الأجنبية في المؤسسات الخصوصية ، لكن في الأخير، نجد في المحصلة أن عتبة النجاح في البكالوريا متقاربة بين المؤسستين ، مع رجحان للمؤسسات العمومية ، التي حمل مشعل تقدمها أبناء الفقراء الذين قيل عنهم لولاهم لضاع العلم . إذاً نعتقد أنه لا مجال كثيرا للمقارنة التي تصل إلى درجة المفاضلة بين المؤسسات العمومية و الخصوصية ، فالأصل كان الأولى ، و ما خروج الثانية إلا اقتناص للمطبّات التي تقع فيها الأولى و محاولة تقديم أنموذج أصلح له ، و إنقاذ للدولة من حالة الغرق التي تعانيها في مجال التعليم ، لكن لا يجب أيضا أن ننسى أن هذه المؤسسات الخصوصية اهتمت كثيرا بالشكل و نست أو تناست المضمون ، و ركزت على الربح ، و جعلت مؤسساتها عبارة عن شركات رأسمالية صغيرة ، همها الأول الربح المادي الذي يكون جشعا في كثير من الأحيان ، و ذلك على حساب الرسالة التربوية النبيلة . الحل في نظرنا ، يبدأ أولا من إعادة الهيبة للمدرسة الأصل ، و هذا رهين بإصلاح شمولي للتعليم ، ينخرط فيه الجميع ، كل من موقعه ، و ثانيا بتفعيل المفاهيم التي نراها ما زالت نظرية ، فاعتبار قضية التعليم ثاني قضية بعد الوحدة الترابية ، نرى أن ذلك ما زال شعارا فقط ، يُدندَن حوله ، دون أجرأة حقيقية ، يجب على الأقل الاهتمام بالبنيات التحتية الكارثية التي تعانيها كثير من مؤسساتنا ، و بناء مؤسسات حديثة و متطورة تتناسب و ثقل القضية التي تحملها ، و تجديد المناهج و المقررات و جعلها قادرة على جلب حافزية التعليم لدى المتعلم التي هي مناط التعلم الجيد ، و تحسين صورة المدرس المظلوم ، الذي صار مفترى عليه ، و متهما في ماله كاعتباره بخيلا أو جشعا في كسب المال بالسوايع رغم عدم انكارنا لذلك لكنه ليس عاما أبدا ، أو في شخصه كاعتباره شاذا أو مريضا نفسيا ، رغم عدم إنكارنا لحالات مبثوثة ، لكنها ليست أصلا عاما ، و إنما هي استثناءات ، و كما يقال الشاذ و الاستثناء لا يقاس عليه ، لكن بعض الجهات المغرضة صارت تحاول جعل هذا الاستثناء أصلا و حكما تجلد به رجال التعليم و نسائه ، متناسية القضايا الكبيرة التي هي أس الفساد و أصله . *باحث في اللسانيات