إلى حدود سنة 1947، كان لبنان بلدا مستقرا هادئا مزدهرا، عرف مجازر دينية بين المسيحيين والمسلمين منذ أزمنة مختلفة؛ آخرها مجازر 1860، لكن ما تفتأ الأحقاد والضغائن أن تنطفئ، ثم يرجع لبنان بلدا هادئا مسالما جميلا. عانى اللبنانيون من الاستعمار التركي، مَثلُه كمثل دول المشرق والمغرب العربي؛ لكن ذلك لم ينقص من السلام والمحبة بين اللبنانيين. ثم جاء الانتداب الفرنسي بعد موت الرجل المريض ابتداء من سنة 1920، ولم يغير شيئا من الواقع. استقل البلد سنة 1943، وانخرط في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الرغم من الخلافات العقدية، وكان من المؤسسين للجامعة العربية ومن المنتسبين الأوائل للأمم المتحدة سنة 1945، ومضى ينتج الفكر والأدب والفن، رائدا في ذلك على الرغم من الشعب القليل والمساحة الأقل. وربما كان عدد مشاهير لبنان وعبقريتهم في جميع الميادين شاهدا على ذلك، وأضحت بيروت عاصمة للفن والأدب والاقتصاد والأرض اللبنانية مرتعا خصبا للعطاء الذي لا ينقص ولا يتوقف. فمتى ابتدأت مشاكل لبنان الوجودية؟ ابتدأت مع قيام دولة إسرائيل وهروب آلاف الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة، وكانت أكبر نسبة من اللاجئين هي التي قصدت هذا البلد الصغير الذي لا يحتمل تبني كل الهمّ الفلسطيني. وكانت على دفعتين؛ دفعة 1948 ودفعة 1967، وكان من أثر ذلك تحوّل اللاجئين إلى مقاومين من داخل لبنان. مقاومة على الحدود الجنوبية ومقاومة انطلاقا من لبنان إلى أوروبا والعالم، خاصة بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964. وكان ذلك عبر الهجوم على إسرائيل والهروب إلى ما وراء الحدود (كما يصنع "البوليساريو" اليوم). أما الهجوم خارج لبنان، فتمثل في عمليات اغتيال الإسرائيليين في أوروبا خاصة، واحتجاز الرهائن؛ كالذي وقع في القرية الرياضية الأولمبية في ميونيخ سنة 1972. كان هناك خلاف كبير بين اللبنانيين حول الوجود الفلسطيني، إذ إن هناك من نادى باكتفاء الفلسطينيين بصفة لاجئ دون عمل عسكري أو مخابراتي داخل لبنان أو انطلاقا منه إلى الخارج. وكان المسيحيون هم الذين يمثلون هذا الاتجاه؛ لكن القوميين والدروز والشيعة (الحركة الوطنية اللبنانية) كان لهم رأي مخالف، يلتزم بالدعم السياسي والعسكري للفلسطينيين حتى ولو هدد ذلك استقرار البلد. ثم أخذ الأمر يستفحل إلى أن انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، واستمرت إلى غاية مؤتمر الطائف سنة 1989. حاول الفلسطينيون استنساخ المقاومة في لبنان بنقلها إلى الأردن؛ لكن الملك حسين كان حازما سنة 1971 (أيلول الأسود)، وأُقبر كل نضال فلسطيني مسلح هناك. علما أن نصف الأردنيين كان فلسطينيا. هذا يعني أن القوميين اللبنانيين كانوا أكثر قوة، مدعومين من الدول العربية خاصة سوريا؛ وهو ما خلق خللا في توازن القوى اللبنانية. دخلت إسرائيل إلى لبنان، وطردت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1982؛ لكن البلد ظل، إلى اليوم، فريسة للالتزام القومي. والفاتورة لا تعد أرقامها ولا تحصى، بلد يُدمر بالكامل وتستعمره قوى أجنبية ويصبح فيه حزب الله أكبر القوى السياسية، وجيشه أقوى مرات من الجيش اللبناني، بل تحول إلى دولة داخل الدولة. ولبنان يحكمه، اليوم، الأجانب من مختلف الأنواع؛ فاقد لاستقلاله، مفروضة عليه حروب وصراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. ويأتي محمود درويش ليقول للبنانيين: "يا أهل لبنان الوداعا" بعد مجزرة صابرا وشاتيلا سنة 1982، ويستنكر تنكر بعضهم للقضية، وكأن لبنان مقدر عليه أن يكون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين. ولو بقي هؤلاء ملتزمين بالدفاع عن حقوقهم سياسيا فقط لما وقعت مجزرة كبيرة بين اللبنانيين أثناء وبعد الحرب الأهلية. نستخلص من هذا أن الخطر القومي إذا تجاوز حدودا معينة فإنه يؤدي إلى الدمار الكامل للشعب والأمة التي التزمت بقضايا خارجة عن الهم الوطني. ولا أظن أن المغاربة يقبلون بحرب أهلية مغربية من أجل قضية قومية كيفما كانت قداستها؛ حتى لو أوصى بها القرآن والحديث، وسماها بالاسم وليس بالتأويل. آخر الكلام نتركه للمثل المغربي العميق: "للي ما عندو هَمْ تولدو ليه حْنانتو".