لا يعقل أن يكون التجهيل و إعادة إنتاج القيم الاجتماعية و الثقافية السلبية سياسة معلنة وواضحة المعالم في التلفزيونات العربية العامة الأكثر مشاهدة. فالسياسات المعاصرة غالبا ما تروم التنوير والتطوير والتحسين والرقي.. وغيرها من الأوصاف الرنانة التي تقول كل شيء من دون أن يصل مداها ليهتك عذرية الواقع ويعيد إنتاجه وتحريكه. لذا أقول، أولا إنها سياسة لا واعية بمفعولها، وجاهلة بالتجهيل الذي تفرزه، وعاجزة عن رؤية مخلفاتها التشويهية. "" بين التمييع والتجييش فقد انعكس التقدم الكبير الذي عرفته تكنولوجيا البث الإذاعي والتلفزيوني عبر الأقمار الصناعية إيجابا على المشهد السمعي البصري العربي خاصة على المستوى الكمي. فبعد أن فتح مركز تلفزيون الشرق الأوسط MBC الباب في بداية التسعينيات، تشهد بداية الألفية الثانية عشرات القنوات العربية الحكومية أو الخصوصية التي تبث عبر مختلف الأقمار، مع تركيز واضح على قمر النيل المصري Nile sat. ولعل المتابع لمعظم هذه القنوات يلاحظ الفقر الكبير الذي تشهد على مستوى إنتاج برامج تلفزيونية تقدم خدمات إعلامية حقيقية للمشاهد العربي. ذلك أنها تظل رهينة ثنائية التمييع والتجييش. إذ أن هناك طائفة من القنوات المتخصصة في بث الفيديو كليبات أو تقديم حوارات وبرامج "خفيفة"... لا تقوم سوى بإحلال المشاهدين والمشاهدات في قرى تلفزية أقرب ما تكون إلى الجنة، حيث الجمال والنقاء والراحة الأبدية والحب... فيما نجد طائفة أخرى من القنوات الرسمية التي شيدت على أساس أن تكون لسان حال الحكام لتمرير رسالتهم وتعظيم شأنهم ومنجزاتهم وإبراز مظاهر الولاء والتعلق التي يبديها الشعب، في عملية تجييشية بليدة عفا عنها الزمن منذ نهاية الثمانينيات. إلا أن بعض العلامات المضيئة فعلا بدأت تطفو على سطح المشهد السمعي البصري العربي من خلال برامج استثنائية في بعض القنوات الخصوصية بفضل جو الحرية وتعزيز المهنية والثقة في رجال ونساء الإعلام التلفزيوني، وكذا احترام ذكاء ووضعية المشاهد العربي الذي فتحت عيونه على ما يجري ويدور في العالم بأسره. إن الخروج من ثنائية التمييع والتشييج يمر عبر الديمقراطية الحقيقية واعتبار الإعلام سلطة وخدمة احترافية لا وسيلة للدعاية أو التنويم عن بعد. التلفزة و سياسات التجهيل إن إلقاء نظرة على البرامج التعليمية والإعلامية (التلفزية على الخصوص) يجعلنا نخرج بوجود سياسة سرية للتجهيل تتعدد محاورها وأهدافها المعلنة، لكنها تلتقي في التحليل الأخير في هدف فعل هو تجهيل التلاميذ والطلبة وعموم المشاهدين. ذلك أن الفصل بين المعارف والمواد الدراسية واختزال الظواهر والقضايا المدروسة في قواعد أو صيغ أو قوانين مجردة لا حياة فيها، وإخفاء الأبعاد الاجتماعية الإيديولوجية الثاوية في المحتويات، ثم تغشية الأبصار عن رؤية التعقيد والتركيب كبداهة أولى مقابل إمطارها بحتمية التبسيط والتوضيح والتحليل العقلي والتفسير الخطي... كلها ترمي بالتلاميذ والطلبة في مزبلة الجهل الضخمة. والمصيبة الكبرى أنها تقدم لهم كقمة العلمية وسدرة المنتهى في التحصيل الدراسي. كذلك شأن الكثير من البرامج التلفزيونية التي تنجح في حجب القضايا الأساسية والأولويات التي تهم المشاهدين كمواطنين ينتظرون خدمة عمومية حقيقية، من خلال مطرقتهم "بمواد" ترفيهية ومسابقات لا منتهية ومسلسلات هزيلة تعيد إنتاج التخلف وتكريس المقولات والسلوكات الثقافية الوضيعة... كما تزرع في عقول المشاهدين الذين لا حول ولا قوة لهم قواعد حياة جديدة تمجد الكسل والسهولة والربح السهل، مقابل طرح التفاوتات الاجتماعية كبديهية منزلة لا تحتاج إلى نقاش أو تغيير. عندئذ، يصبح التلميذ والطالب جاهلا بالجهل الذي يدرس له، مثلما يصير المشاهد حملا وديعا يسلم بكل ما يقدم له من "مواد"، بحيث يتلقى محتوياتها بكل رحابة صدر، وبالتالي، تكون هي أدواته ومقولاته لتمثل نفسه وعلاقاته وموقعه داخل الحقل الاجتماعي وداخل العالم. إنه التجهيل كسياسة سرية، ولا يهم إن كانت إرادية أم لا إرادية. إعادة إنتاج القيم التقليدية لعبت التلفزة كوسيط إعلامي جماهيري دورا كبيرا في عملية إعادة إنتاج قيم المجتمعات والأفراد إما ترسيخا أو تغيرا. ذلك أن أنماط السلوك المعروضة ومبادئ الحضور في المجتمع من خلال الشارع أو الأسر... أو المرافق العمومية تقدم للمشاهد كيفيات للوجود تتضمن قيما إيجابية أو سلبية (حسب كل حالة) ومواقف مجتمعية أو فردية إزاء الظواهر والوضعيات المعروضة. ولعل أبرز مثال لهذا الدور هو كيفيات تقديم المرأة مظهرا وسلوكا وحضورا اجتماعيا متعددا... الذي يمكن التأريخ له من خلال ما قدمته التلفزة منذ الخمسينات إلى الآن. فقد استطاعت المرأة في الغرب على الخصوص ان تشغل مساحات كانت إلى وقت قريب حكرا على الرجال... كما ساهمت التلفزة في تحييد الأبوية الرجولية وفرض المرأة ككائن بشري له حريته واستقلاليته ورغباته... على الرغم من الاستمرارية السرية للهيمنة الذكورية ما دامت المرأة تفهم وضعها وتتموقع إزاء واقعها من خلال مقولات ذكورية صرفة. وإذا كانت التلفزيونات الغربية قد خلخلت القيم الاجتماعية البالية حيث عكست التحول المجتمعي المتوازي مع الصعود الرأسمالي والانقضاض الليبرالي على الاقتصاد والمجتمع معا، فإن "نظيراتها" العربية ساهمت مع سبق الإصرار والترصد في تمييع صورة المرأة، وعمدت إلى إعادة إنتاج أكثر القيم تقليدية وتخلفا. وهذا ما تعكسه بقوة المسلسلات الرمضانية والإشهارات المتعددة للأدوات والتجهيزات المنزلية... حيث تتحالف تحالفا مقدسا مع القيم الذكورية، وتكاد الصور ترقص فرحا بالوضعيات المقدمة كواقع طبيعي بديهي: سيادة الرجل في الخارج ( الشارع، مقر العمل، النوادي...) وسيادة المرأة في الداخل على البيت وشؤون الطبخ والغسيل و رعاية الأطفال. كما تترسخ العلاقة التكميلية للمرأة والرجل، حيث إن وجودها لا معنى له من دون وجود الرجل، ما دامت تكرس حياتها لخدمته وإسعاده وإراحته من عناء العمل... هذا مثال واحد على المساهمة الإستراتيجية للتلفزات العربية في إعادة إنتاج التخلف الاجتماعي والفكري وعلى إبقاء الوضع على ما هو عليه خدمة للساسة وأباطرة الاقتصاد.. الذين يغازلون اللاوعي الاجتماعي قصد تقوية قبضتهم على لجام المجتمعات العربية من الماء إلى الماء.