بمحطة القطار الرباط أكدال انتظرني 'صديقنا' المشترك الذي تطوع ليرافقني إلى بيت الشاعر الكبير محمد الفيتوري و يعرفني عليه.. كنت أحمل باقة ورد طلبت من البائع أن يحرص على ترتيبها بعناية فهي مهداة لشاعر ولا داعي لأن أتحدث عن حس الشعراء ! سلكنا طريق تمارة و انحرفنا بالسيارة في اتجاه ضاحية سيدي العابد .. بدا البحر متعبا في آخر النهار بعدما تخلت عنه الشمس, فقط رائحته القوية كانت تضوع الفضاء. في الطريق تحدثنا عن شاعر افريقيا, هذا الدرويش الذي عزف متجولا مطولا قبل أن يستقر به المقام في هذه الرقعة المتنحية عن العاصمة .. أهي لعنة الشعر أم هو قدر الشعراء, تساءلت؟ أخبرت الصديق أن محمد الفيتوري واحد من الشعراء الذين تعرفت عليهم أول مرة من خلال المقرر الدراسي للمرحلة الابتدائية قبل أن يطال التغيير تلك المناهج المترعة بروائع القصائد و النصوص لكبار الكتاب والشعراء من المغرب و المشرق.. مازلت لا أفهم حتى الآن لم تم تغييرها! قصيدته الموجعة تلك التي يدعو فيها افريقيا للاستيقاظ ماتزال عالقة في ذهني منذ قرأتها أول مرة.. وجدت أنها تحمل قدرا كبيرا من المرارة و الألم و الانشغال بمصير قارة كاملة, كان الفيتوري يلح فيها على مناداة افريقيا كما لو ينادي محبوبة آثرت تجاهله, يسائلها, يشجعها, يشحذ همتها, يغيظها بكلامه اللاذع تارة و يجاملها تارة أخرى: افريقيا افريقيا استيقظي من حلمك الأسود.. قد طالما نمت ألم تسأمي؟ ألم تملي قدم السيد؟... جوعانة تمضغ أيامها كحارس المقبرة المقعد عارية الماضي بلا عزة تتوج الآتي و لاسؤدد ! أمام 'فيلا أشرقت' توقفت السيارة, قال لي الصديق: إنه اسم ابنته و هي تدرس حاليا بفرنسا.. أجبته: اسم جميل, فقال بصيغة سؤال استنكاري : و هل يقترف الشعراء إلا كل جميل؟! فتحت لنا الباب زوجته المغربية 'راجات' رحبت بنا بمنتهى اللطف, استلمت مني باقة الورد شاكرة و قادتنا إلى الطابق العلوي حيث توجد غرفة الشاعر. جلسنا في صالون بالبهو ننتظر أن يخرج علينا الفيتوري و أنا أتصور رؤيته بعد لحظات يتحرك كما كان يفعل أيام زمان وهو يتلو قصائده الشعرية.. حين كان يقرأ بصوته و يعبر بحركات جسده كما لو أنه يؤدي قطعة مسرحية. بعد لحظات عادت زوجته وطلبت منا أن ننتقل إلى غرفة نومه فهو لا يقوى على المشي إلى حيث جلسنا رغم أن المسافة لا تتجاوز ست أو سبع خطوات.. فالفيتوري ألمت به قبل سنوات عدة جلطات متتالية ألحقت شللا ببعض أطرافه و أفقدت ذاكرته جزءا كبيرا مما كانت تختزنه من ذكريات. في طريقنا إلى الغرفة بدا لنا مكتب صغير بجواره مكتبة, وقفت هنيهة أتأمله فلا مجال للشك أنه مكتب الفيتوري, قبل أن تعلق زوجته: لطالما جلس هنا و كتب دون توقف. كان مستلقيا على السرير, بدا جسده نحيلا و عيناه شاخصتان في سقف الغرفة, حزينا لكن ليس منهزما.. شاحبا لكن محافظا على كامل قيافته و ترتيبه و أناقته, متألما لكن ممسكا بأحابيل الكبرياء والشموخ الذين طبعا شعريته. عندما انتبه لوجودنا أشرق وجهه بابتسامة عريضة, ألقيت عليه التحية وسألته عن حاله.. حدثه صديقنا عن اهتمام الناس بمعرفة أخبار صحته و الاطمئنان عليه.. ليجيب عن أسئلتنا كان يكتفي بقول: إيوة أو بهمهمة قصيرة. أخبرته أني معجبة بأشعاره و سألته عن سر كل هذا الحب الذي يتدفق من قصائده لافريقيا.. تقطر الدمع من عينيه و قال: افريقيا.. قبل أن يطلق آهة طويلة و يتبعها بالقول بصعوبة : إنها جدتي.. رائد مدرسة 'الافريقانية' وصاحب الثمانية و عشرين ديوانا شعريا عاجز عن ترتيب كلامه ونطقه بسلاسة كما عودنا.. يا لغدر الدنيا ! الفيتوري كانت تربطه علاقة خاصة بجدته التي كانت برأيه تتمثل فيها و من خلالها القارة السمراء كلها, لذلك لا عجب أن يطرح الشاعر مآسي قارته و جدته طرحا متناغما و متداخلا, مسقطا مشاكل جدته و عائلته على مشاكل افريقيا و سكانها, حاملا هموم السود و الزنوج و الأفارقة المضطهدين طوال الوقت. بعد محاولات شاقة.. رحنا نتذكر معه بعض لقطات مسيرته الطويلة.. ذكريات ميعة الصبا في الاسكندرية و ليالي بيروت و صوت الموج في شواطيء طرابلس, و الأمسيات الساهرة في الخرطوم وصولا إلى أيام الرباط.. أضاء وجهه مجددا بابتسامة تركناه بعدها ليستريح و انسحبنا في هدوء. في طريق العودة.. تذكرت ما قرأته من الأرشيف مما كتب عن الفيتوري و ما قيل عنه أيضا, صحيح أن الرجل كان متقلب المزاج و المواقف السياسية على وجه الخصوص, و صحيح أيضا أنه كتب شعرا في جميلة بوحيرد و غسان كنفاني كما كتب شعرا في صدام حسين وتشاوشيسكو.. لكن سواء اتفقنا معه أو اختلفنا فإنه واحد من كبار الشعراء الذين قلبوا تاريخ الشعر في افريقيا إلى جانب ليوبولد سينغور و إيمي سيزار.. ذاك المساء كان استثنائيا.. كلما تذكرت تفاصيله تمنيت الشفاء لشاعر افريقيا و قلت في نفسي: شكرا لصديقنا المشترك الذي لم يكن سوى الصحفي السوداني العزيز طلحة جبريل.