في سياق السرقات، التي أصبح تراثنا المغربي يتعرض لها بالجملة، في كل يوم، من طرف بعض اللصوص المارقين، الخارجين عن صواب أشقائنا الجزائريين، أو من نعتبرهم كذلك على الأقل، وخوفا من أن يطال هذا الفعل المقيت، المجال الأدبي المغربي بدوره، ارتأيت أن أكتب هذا المقال، تذكيرا لمن لديهم ذاكرة من رمل، بأن أصالة الثقافة المغربية خط أحمر، ما دام التاريخ لا ينسى صناعه. فإذا كانت مجموعة ناس الغيوان قد سطت على التراث الموسيقي الجزائري، كما يزعمون، والقفطان ليس مغربيا، والزليج جزائري في الأصل... فإن النبوغ المغربي في الأدب العربي، على هذا الأساس، قد يصبح، في يوم من الأيام، جزائريا، أو هو كذلك ونحن لا نعلم. ومن ثمة، ألا يمكن القول إن مقولة "بضاعتنا ردت إلينا"، التي طالما تغنى بها إخواننا المشارقة، هي اليوم سلاح جديد في يد بعض الجزائريين الحمقى، يستعملونها بغباء، من أجل النيل من هويتنا الثقافية المغربية، التي جعلت مغربنا بلدا قويا صامدا، متراص البنيان، على امتداد قرون طويلة؟ الواقع إن لهذه المقولة، حكاية طويلة، تعود ولادتها إلى بداية التواجد العربي ببلاد المغرب والأندلس، حيث بدأ التنافس والتنابز بين عرب الغرب الإسلامي، وعرب المشرق العربي يشتد أكثر فأكثر. ولا بأس من أن أذكِّر، في هذا المقال، من سولت له نفسه السطو على تراث غيره، لكي يصنع تاريخا ليس من جلده، بأن المغاربة عبر التاريخ، كانت لهم هوية خاصة، تتفاعل مع غيرها من الهويات، تأثيرا وتأثرا، بدون أي مركب نقص أو عقدة. فمما لا شك فيه أن صراع المشارقة والمغاربة، في إطار ثنائية "المركز والهامش"، أو "الأستاذية والتلمذة"، كان من جهة واحدة فقط، لأن المغاربة منذ القدم، أي قبل مجيء العرب أنفسهم، تعايشوا وتفاعلوا مع ثقافات وافدة، دون أي تردد أو انغلاق، الشيء الذي ولّد لديهم قابلية للتعايش مع كل الأجناس والثقافات والشعوب، وهي عادة حميدة ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا. عقدة «المشرق والمغرب» هذه، لم تكن مطروحة البتة، عند المغاربة في يوم من الأيام، أو على الأقل لم تكن بنفس الحدة، التي كانت عند إخواننا بالمشرق العربي، أقصد المصريين بالأساس. لقد ظل المغاربة ينظرون دائما إلى الأدب العربي في المشرق، باعتباره جزءا من الثقافة العربية ككل، التي لا ينبغي، بأي حال من الأحوال، النظر إليها في طهرانيتها، أي باعتبارها ثقافة عربية خالصة ونقيّة. لأن واقع الحال يقول إن الثقافة العربية، في تكونها وتطورها، كانت دائما مزيجا ثقافيا، توالج فيه ما هو إسلامي، مع ما هو يوناني، وفارسي، ثم لاحقا مع ما هو أندلسي، وإفريقي، وأمازيغي، وهكذا. لقد ظل المشارقة (ليس كلهم)، طيلة قرون طويلة، مسكونين بمبدأ الامتياز، والأحقية في الريادة والسبق الأدبيين، إلى الحد الذي تحول فيه هذا الهوس، إلى حالة مرضية سيكوباثية، تتفاقم كلما ضايقهم النبوغ المغربي، بحيث لا يترددون، بمناسبة وبدونها، في ترديد مقولتهم الشهيرة والبائسة "هذه بضاعتنا ردّت إلينا". والحق أن المغاربة، على الرُّغم من تطورهم وريادتهم، في مجموعة من المجالات العلمية والفلسفية والأدبية والموسيقية، في فترات تاريخية سابقة، ولنا في الخطبة الشهيرة للقائد العسكري الأمازيغي طارق بن زياد خير مثال على ذلك، بل عطفا على ما سبق، وللأمانة، سأكون مجبرا للتذكير بالازدهار الحضاري والعلمي في الأندلس وبلاد المغرب: (الموشحات، فن الزجل، الطرب الأندلسي، التصوف العرفاني، الفلسفة الرشدية، الجغرافيا مع الشريف الإدريسي، أساليب الري والزراعة...)، وحتى في وقتنا الراهن، أظهر المغاربة تميزا فكريا وأدبيا، من خلال مشاريع رائدة لكل من : محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، عبد الفتاح كليطو، محمد مفتاح، سعيد بنكراد وآخرين، قلت على الرُّغم من أن لأبناء هذه البلاد بصمات واضحة المعالم ، منذ القدم، في الحضارة والفكر العربيين، وكذا مساهمات جليلة ومؤثرة في النهضة العربية في العصر الحديث، فإن المغاربة ظلوا متشبثين بعروبتهم، وبوحدة الأدب العربي، بعيدا عن أي تمييز أو تقسيم على الأقطار. فهذا صاحب «النبوغ المغربي» المرحوم عبد الله كنون، الذي حاول في العديد من المناسبات إعادة الاعتبار للعبقرية المغربية بمعية نخبة مثقفة، جمعت بين معارف شتى، من علم وأدب وفكر، من بينها المختار السوسي، ومحمد المنوني، ومحمد بنتاويت، ومحمد الفاسي، وعلال الفاسي؛ قلت ها هو عبد الله كنون، في دفاعه عن القومية العربية، في كتابه «خل وبقل»، ينظر إلى الأدب العربي، على أنه وحدة «لا تتجزأ في جميع بلاده، في المغرب والمشرق، وفي الأندلس وصقلية المفقودتين»، بحيث لا يُسمح بتقسيم الأدب العربي، إلى أدب أندلسي، وأدب عراقي، وأدب مصري، وأدب مغاربي... وإنما هو " أدب واحد تُشارك في إنتاجه بلاد متصلٌ بعضُها ببعض، كانت في وقت ما، محكومة بحاكم واحد، ولم تزل بعد استقلال بعضها عن بعض تحكم بقانون واحد، ثم هي متشابهة في التكوين والخلق والمزاج واللغة التي تعبر بها عن أفكارها وخواطرها وحاجاتها واحدة". إن هذا الرجل الفذ، الذي نقّب وبحث، فوجد كنوزا عظيمة من أدب «لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى»، في مصنف شهير وسمه ب "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، قد خلق حدثا طارئا وخطيرا حينئذ، في المغرب والمشرق على حد سواء. ومما يؤكد عقدة "المركز والأحقية في الريادة" عند إخواننا المصريين خصوصا، هو إعلان وزارة المعارف المصرية عن جائزة، لمن يؤلف كتابا عن الأدب العربي في مصر، في الوقت نفسه الذي صدر فيه كتاب النبوغ، وقد كانت قيمة الجائزة حينها 500 جنيه مصري(سعيد حجي جريدة المغرب) . إلا أن الكبار من المفكرين المشارقة، تاريخيا، لم يكن ليروقهم الانخراط في حلبة هذه الثنائية، ثنائية المشرق والمغرب، المركز والهامش، الإبداع والاتباع... ويكفي في هذا الإطار، أن أسوق شهادة أحد أهم علماء المشرق العربي، في عصر النهضة، في حق النبوغ المغربي، والعبقرية المغربية، لتأكيد ما سبق، يتعلق الأمر بأمير البيان شكيب أرسلان، الذي يقول في حق عبد الله كنون: "إنه الكتاب الممتع الذي أخرجه للناس، فذا في بابه، السيد الشريف والعلامة الغطريف الأستاذ عبد الله كنون من مفاخر القطر المغربي، في عصرنا الحالي". ثم يضيف قائلا : "بعد أن طالعت هذا الكتاب الصغير حجمه، الكبير قدره، كأني لم أعلم عن المغرب قليلا ولا كثيرا، وكدتُ أقول إن من لم يستطع الاطلاع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علما". وحتى نرفع عن أستاذنا عبد الله كنون، كل اتهام شوفيني أو عنصري، أو تعصبي، في كتابه النبوغ، سأتوسل بشهادة أخرى، لأمير البيان دائما، يقول فيها : "ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف، اعتقد أنه بالغ فيه جدا، وحمل نفسه إدا، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة ولا تعنى به الكتب الجمة، إلا أنه عندما يقرأه يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصد بلفظ موجز، وكان فعله محققا لقوله". ذلكم بعض الهوامش، على هامش مقولة " بضاعتنا ردت إلينا"، وعلى تطاول بعض الجزائريين على تراث المغاربة، بعد أن تطاير بصاقهم، وانتثر حقدهم وجهلهم حتى أصابهم عمى الألوان، فتحول لسانهم إلى مجرد رقاص، في جدل بيزنطي لا يتقنه إلا من ما زال يعيش بعقلية شعبوية وشعوبية بائسة، عقلية (الدولة العظمى) أقصد.