عندما تتكشف النوازع والدوافع المحركة للعقل الأمني وسيكولوجيته، وتظهر على أنها في هدفيتها ومسعاها تعلي من شأو كرامة الفرد وتصون إنسانيته ،عندئذ يتوجه التفكير أكثر إلى الإبداع والابتكار في كيفيات التعامل مع ضمان حقوق الإنسان وحفظ أدميته،حيث يكون الأصل والمراد تعزيز فضيلة ضمان الحق في التعبيرات الشعبية عن الحقوق وصون الحق في التظاهر والتجمهر والاحتجاج بشتى طرقه في الفضاء العمومي،وبيننا وبين الضفة الأخرى تتسع المسافات وتنعدم خطوط التماس ،بفعل تعاظم آلة البطش والقمع هنا،وهناك حيث بزوغ طرائق مختلفة تضع الفرد/المواطن في الحسبان ،وبين ظهرانين وأحضاننا يتعزز الركل والرفس والضرب بشتى تفاصيله،وتتنوع الأدوات المستعملة والحاطة بكرامة الإنسان. وهناك أيضا حيث ترتسم سلمية رجل الأمن واحترامه لحق المواطن في التظاهر،وأيضا بين منطق استعمالات الغازات المسيلة للدموع ،والتي في مدلولها إجبار على البكاء والنحب حتى في عز الحرمان والحظ المتعثر في الحياة وانسداد الأفق. هناك حيث ابتكار الغازات المثيرة للضحك من أجل تفريق المتظاهرين دون إحداث أي خسائر في صفوفهم،يحدث هذا في السويد لا أقل ولا أكثر لأنها بكل بساطة تصنف في إطار "جغرافية الديمقراطية العالمية"ضمن الأوائل بحسب مؤشر الديمقراطية. شتان بين العقلية الأمنية المنتجة للضحك والفرحة،والعقلية الأمنية المنتجة للسأم وما ينتج عنها من سقم وحزن وضجر وإحباط وتيئيس وهدر للإنسانية بحسب تعبير "مصطفى حجازي"،شتان بين غاز وهراوات تصنع البكاء مع ضياع الحقوق ،وغاز يصنع الضحك ويرسم تعابير الابتسامة على الوجوه بعد الكدر والضيق مع تأكيد الأمل في إحقاق الحقوق. طبعا الفارق شاسع وفسيح بين دولة تحترم الحقوق والحريات ،ودولة تمتهن القهر والمهانة خصوصا طالب الحق في الشغل وتزيد من هدر حقوق المعطل ،والفرق واسع بين متظاهر ومحتج تثبط عزيمته من خلال الضحك وآخر تنتهك وتهدر آدميته بعاهات مستديمة في جسده ،نعم تختلف سيكولوجية السلطة والعقل الأمني في بيئة تنتعش فيها الديمقراطية،وتنتعش معها حقوق الإنسان /المواطن بمعنى الكلمة،وبيئة ترخي فيها التسلطية سدولها وتلقي بظلالها وثقلها على الأجساد الضعيفة والواهنة. وهنا يتكشف البون الشاسع والفسيح بين العقل الأمني الذي يصنع الفرحة والابتسامة والمرح حتى في مواجهة الفعل الاحتجاجي ،والعقل الأمني القهري والقمعي الذي يصنع مآتم إنسانية حقيقية،فوراء فض الاحتجاجات بالغازات المثيرة للضحك انبعاث الأمل في الانعتاق ونيل الحقوق لحين وقتها وأوانها ،وفي فرض القوة وانفراطها على الأجساد توكيد على الخوف وإنذار ضد حالة "العود الاحتجاجي" ومع صناعة الهم والغم والكرب، بمنطق "ادخل في جحر نفسك وتعلم ثقافة الخضوع والرضوخ،توقيك من شر بطش ماكينات الضرب والإذلال"،حيث تمسي في مأمن جسدي/مادي فقط، بمعنى ممارسة نوع من "الكبح الجواني الذاتي"،بينما تتلقف كل أنواع الأمراض النفسية بما فيها الاكتئاب المزمن ،ويزداد الأمر تعقيدا عندما يلقى على مسامعك أن سوق الشغل ليس فيه مكان لك أي بعبارة أخرى"شخص غير مرغوب فيه "،وهو للمحظوظين بالوراثة وامتدادات شجرة العائلة والزبونية المتفتقة العابثة بأرزاق الناس. إنه جسد مباح ومشاع للهراوات المستوردة والمحلية الصنع ،وبينك وبين حقك في العمل مسافات وحراس وجدران تتكاثر مجرد الاقتراب منها،وتتمنع عليك أبواب الولوج إلى العمل بفعل فكر ادمي /عدمي ،يهوى قهر ضعاف النفوس ويهوى إدخال الفرد في شرنقة المعاناة النفسية والجسدية يفقد معها إنسانيته ومواطنته، مادام انه مجبر على معانقة الألم بدل معانقة الحرية والأمل،وهي كلها حسابات "العقل الأمني الباثولوجي" عكس "العقل الأمني السوي"الذي يعد ينبوع زرع قيم الحرية في ميادين الاحتجاج حيث يقف وقفة إجلال وانحناء للحناجر الباحثة عن الحق في العمل والحق في الحياة والكرامة والعيش الكريم.