اجتهد الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في مشروعه الفكري والنقدي في مدرسة فراكفورد النقدية قصد المساهمة في إعادة بناء الدولة والمجتمع الألماني الذي دمرته الحرب العالمية الثانية. وأيضا، قام بنقد وتفكيك الفكر الشمولي النازي في الجامعة الألمانية باقتراح وتطوير الفكر الديمقراطي والتواصلي في الفضاء العمومي والانفتاح على المجتمع. يكون فيه المواطن خلاقا ومبدعا وصاحب المبادرة في بناء الدولة والمجتمع. فما هي مفاهيم هذا الفكر؟ وكيف ساهم في معالجة الصراع السياسي والاجتماعي وبناء العيش المشترك واعتماد الحوار والإقناع وتحقيق اندماج الجميع في دينامية البناء الديمقراطي وترسيخ ثقافة الاختلاف والاعتراف والإنصاف في ألمانيا وفي المجتمع المعاصر؟ وكيف انتقل هابرماس من مفهوم المثقف العضوي عند غرامشي إلى المثقف العمومي الذي يدافع عن المجتمع بجميع فئاته الاجتماعية لاستكمال مشروع الحداثة، وإعادة بناء الثقة بين مؤسسات الدولة الحديثة والمجتمع باعتماد الفكر التواصلي الديمقراطي؟ 1- الفكر التواصلي عند يورغن هابرمس لقد أبدع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مفاهيم جوهرية لبناء مشروعه الفكري من قبيل "الفضاء العمومي"، "العقل الأداتي"، "العقل التواصلي"، "الفعل التواصلي"، "النقاش العمومي" و"إيتيقا التواصل" لبناء مشروعه الفكري. كما يعتبر رائدا من رواد مدرسة فرانكفورد النقدية والعقل المفكر للدولة والمجتمع الألماني المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. وقد انتقد هابرماس الفكر الشمولي للأنظمة الشمولية التي تسببت في انحراف الممارسة الديمقراطية؛ وتعطيل الفكر الديمقراطي والتواصلي وسيطرة التفكير الشعبوي الشمولي الذي يؤمن بالقوة المطلقة للعقل الأحادي ومركزيته في اتخاذ القرار. ويعالج يورغن هابرماس في كتابه "أخلاق التواصل" مشروعه الفكري وإشكالية التواصل؛ بحيث ميز بين "العقل الأداتي" و"العقل التواصلي". ويرى أن العقل الأداتي هو عقل أحادي متمركز على ذاته؛ لا يمكن أن يتجاوز أزمته إلا بتحرير طاقة العقل في الفعل التواصلي. وقد صاغ هذا الفيلسوف طبيعة العقل التواصلي باعتباره عقلا إنسانيا يخلص العقل الأداتي من تمركزه الذاتي ومن شموليته. كما يعد العقل التواصلي أكثر كفاءة وقوة وحداثة، ويستفيد من معطيات العقل النقدي للرأي العام، ويساهم هذا العقل في التواصل مع غيره في الفضاء العمومي. ويبحث عن الإقناع عن طريق الحوار والنقاش والحجاج، بعيدا عن أسلوب الضغط والإكراه، ويتيح للمواطن الانخراط الإيجابي في المجتمع بفضل التواصل العقلاني النقدي والديمقراطي. كما يساهم المثقف العمومي في تدبير الاختلاف ومبادئه بالنقاش العمومي المسؤول والتواصل الديمقراطي، لتحقيق التضامن والاندماج الاجتماعي للمواطن ولجميع الفئات الاجتماعية، برعاية الدولة الديمقراطية ومؤسساتها الدستورية التي تعبر عن الشعب وتمثل مصلحته؛ وتحترم اختياراته الانتخابية والعمل بمصداقية، لتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي صوت عليه الناخبون، كشكل من العقد الاجتماعي الذي يحتم احترامه والوفاء به. وما دون ذلك يعتبر تقصيرا سياسيا يفترض النقد والمحاسبة لتصحيح الاعوجاج والأعطاب. 2- استراتيجية الفكر التواصلي في الفضاء العمومي يعتبر الفكر التواصلي تعبيرا عن التفاعل بين الأفراد والجماعات بواسطة الحوار والحجاج قصد تحقيق التفاهم عن طريق الإقناع في الفضاء العمومي، وعدم الإقصاء بسبب العرق والنوع أو اللون، باعتماد أخلاقيات المناقشة للوصول إلى التفاهم والحلول لمشاكل المجتمع المعاصر. وحسب يورغن هابرماس يعتمد التواصل على الموضوعية والنزاهة والمصداقية وعدم السقوط في التضليل والكذب بهدف الاندماج في مجتمع الحقوق والواجبات، حيث الفرد يأخذ بعدا جديدا ويتحول إلى مواطن مساهم برأيه في الشأن العام وبلورة مواقف وآراء في ما يخص القضايا التي تشغل اهتمامه إلى جانب الرأي العام في الفضاء العمومي داخل المجتمع. والفكر التواصلي يتحقق بالفعل التواصلي كفاعلية ودينامية مجتمعية يساهم في تطوير البعد الاجتماعي والديمقراطي والإنساني للمجتمع، لتجاوز أعطاب العقل الأداتي المتمركز على ذاته في إنتاج القرارات في غياب الاعتراف بالآخر وإشراكه في النقاش والإقناع. لذلك يساهم التواصل المستمر في الفضاء العمومي إلى توحيد الجهود الفردية للمواطنين وتحويلها إلى فعل إيجابي وبناء؛ يتوخى تحقيق التفاهم حول القضايا الخلافية بمنطلقات وأهداف عقلانية تعتمد الحجاج والمرافعة، للإقناع وتحقيق المساواة والإنصاف للحفاظ على السلم الاجتماعي والعيش المشترك والتضامن، على الرغم من أن الأزمات والظروف القاهرة تفترض تنزيل الحماية الاجتماعية وتعميمها بشكل ديمقراطي تحمي المواطن من الهشاشة والفقر؛ كما تحميه أيضا من المزايدات الشعبوية التي تزيد في تأزيم الوضع الاجتماعي. في هذا السياق، يهدف الفعل التواصلي بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى تجاوز واقع الهيمنة والإكراه في المجتمع المعاصر إلى مجتمع الحوار والنقاش على أسس عقلانية لخلق علاقات اجتماعية سليمة قوامها الإنصاف والاعتراف، لتوحيد الجهود لمجابهة الإقصاء والتهميش وتحديات المستقبل عبر إدماج الجميع في الدينامية الاجتماعية وتحقيق البناء والتطور في التعليم والصحة والشغل والسكن والنهوض بالاقتصاد الوطني، كأولويات، تفترض تغييرا في العقلية السياسية والاجتماعية وتحتم استحضار الإرادة الفعلية لتصحيح أعطاب الأمس والحاضر، لفتح آفاق جديدة نحو المستقبل بإرادة الحوار والتواصل والإنصاف لتحقيق مجتمع الحقوق والواجبات اعتمادا على الديمقراطية ببعديها النيابي والتشاركي. 3- المقاربة التواصلية وإيتيقا المناقشة يعتبر يورغن هابرماس التواصل مع الرأي العام النقدي في الفضاء العمومي الواقعي والرقمي أمرا أساسيا في معادلة تدبير الشأن العام الذي يهتم بالقضايا المشتركة للمواطنين عبر طرح الأفكار والآراء والبرامج بهدف النقاش العمومي، باعتماد إيتيقا الحوار المبني على الحجاج والإقناع. وذلك بهدف خلق وتطوير الثقافة الديمقراطية والتواصلية في جميع الظروف. والقيام بتصحيح أعطاب الممارسة الديمقراطية لضمان مشاركة المواطن الواعي بحقوقه وواجباته وتحقيق اندماجه الاجتماعي ومحاربة التهميش والإقصاء. لذلك، فإن ظروف الأزمات تحتم الدراسة والتقييم والتواصل المستمر مع المواطن، لوضعه في الصورة كاملة بكل شفافية ومسؤولية، لضمان انخراط الجميع في خلق وعي مجتمعي بناء باعتماد النقاش العمومي وأخلاقيته لتجاوز حالة الغموض وفقدان الثقة عند المواطن. وحسب يورغن هابرماس، فإن التواصل الفعال والبناء يكون ناجحا عندما ينفتح الفاعل السياسي في المجتمع المعاصر على المواطن في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي، حيث يتم الإنصات إلى انشغالاته ومطالبه لضمان انخراطه البناء لبلورة الحلول والبدائل لمختلف الصعوبات والمشاكل التي يصطدم بها. كما يتطلب الإنصات إلى مطالب المواطن ومرافعاته باعتماد أخلاقيات المناقشة في جميع الظروف لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية بشكل متضامن وعدم اللجوء إلى القرارات المتسرعة والأحادية، على الرغم من الاختلاف في المقاربات والتصورات. كما تساعد أخلاق المناقشة المبنية على الصدق والحجاج على بناء مجتمع تواصلي يرتكز على التفاهم الفعال بمشاركة المواطنين لإنتاج الحلول والبدائل والقرارات بشكل مسؤول تضمن انخراط ومشاركة الجميع لتنزيلها والالتزام بها، ما دامت تعبر عن مصلحة المجتمع الذي ساهم في بلورتها وإنتاجها. بهذا الشكل يتجاوز المجتمع ظروف التوتر والصراع حين يصبح الفضاء العمومي مجالا للحوار والنقاش البناء، بأخلاق تواصلية وديمقراطية حقيقية تعكس روح الصدق والأخلاق عند الدولة والجمهور على السواء. في هذا السياق، يتطلب الاختلاف في الأفكار والمواقف روح الحوار والنقاش لمعالجة قضايا الشأن العام في المجتمع بمقاربة تواصلية منفتحة تضمن مشاركة الجميع بما في ذلك الرأي المعارض، لتجويد القرارات المتخذة حتى تكون ذات مصداقية في التنفيذ، وضمان انخراط المواطن وتفاعله الايجابي مع هذه القضايا بكل مسؤولية وروح تضامنية. تؤسس لفعل ديمقراطي وتواصلي ممكن. يلتزم فيه الفاعل السياسي بوعوده الانتخابية التي قدمها للمواطن، بمصداقية وشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم استغلال ظروف الأزمات لتمرير قرارات مجحفة وغير إنسانية، في عالم يعرف تراجعا ديمقراطيا يفترض الانفتاح على المقاربة التواصلية ببعدها الديمقراطي في الفضاء العمومي، لبلورة الحلول والبدائل المقنعة ترضي الجميع. وتحقق اندماج جميع الفئات الاجتماعية في المجتمع حتى تسود روح التضامن والاعتراف والإنصاف. خاتمة شكل الفكر التواصلي عند يورغن هابرماس مقاربة نوعية تهدف إلى إشراك الجميع في النقاش العمومي العقلاني، قصد معالجة قضايا المجتمع الحديث ومشاكله بطريقة ديمقراطية يطبعها التفاهم، للتوصل إلى حلول وبدائل مرضية لتدبير الاختلاف وتحقيق الاعتراف والإنصاف، عوض الإقصاء والصراع والتوتر. وذلك من أجل إدماج الجميع في الدينامية الاجتماعية والسياسية للمجتمع. كما يساهم المثقف العمومي، بدوره، في مناقشة الشأن العام والقيام بمسؤولية التفكير وبناء المعرفة وتعميمها، قصد النهوض بالمجتمع وربط المعرفة والعلم بالواقع الملموس في الفضاء العمومي؛ والدفاع عن الخطاب العلمي وأهميته لتحقيق التطور المنشود. ويهدف الفكر التواصلي بأبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية إلى تجاوز واقع الهيمنة والإكراه إلى مجتمع الحوار والنقاش على أسس عقلانية لخلق علاقات اجتماعية سليمة قوامها الإنصاف والاعتراف، لتوحيد الجهود لمجابهة الإقصاء والتهميش وتحديات المستقبل عبر إدماج الجميع في الدينامية المجتمعية وتحقيق التطور في التعليم والصحة والشغل والسكن والنهوض بالاقتصاد الوطني، كأولويات تفترض تغييرا في العقلية السياسية والاجتماعية؛ وتحتم استحضار الإرادة الفعلية لتصحيح أعطاب الأمس والحاضر، لفتح أفق جديد نحو المستقبل بإرادة الحوار والتواصل والإنصاف لتحقيق مجتمع الحقوق والواجبات اعتمادا على الديمقراطية ببعديها النيابي والتشاركي.