دراسة أنثربولوجية للسرد العربي للدكتور عياد أبلال في مقدمة منجزه الأكاديمي الموسوم ب"دراسة أنثربولوجية للسرد العربي"، يؤكد الدكتور عياد أبلال أن الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية كانت الجاذبية العظمى التي شدته إلى الأدب السردي العربي والغربي على حد سواء، كما يؤكد في تصدير كتابه أنها جعلته بحكم تخصصه في علم الاجتماع وممارسته للكتابة والنشر في هذا المجال، كما في الأنثربولوجيا الثقافية، أو ما يُسميه في المختبرات السردية الغربية بالنقد الإثنولوجي والأنثربولوجي، بالرغم من عدم وجود شعبة خاصة بهذا التخصص للأسف في الجامعة المغربية، التي شهدت حركة قوية وانتشارا أوسع في المجتمعات التي بحكم إيمانها العملي بتعدد وتداخل التخصصات امتدت إلى حقل الأدب، الذي بدوره استفاد كثيرا من هذه التعددية النظرية والتطبيقية في المقاربة والتحليل، بذلك غدا النقد الأدبي خاصة في الغرب يمتح أهم مؤسساته المفاهيمية والنظرية من حقول العلوم الإنسانية، إنها الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية، وهو بمعنى ما، يضيف الدكتور أبلال "النقد الذي يدين بقوة التحليل وعمق الرؤية التطبيقية إلى أبرز مدارس الأنثربولوجيا، وهي التأويلية الرمزية التي بدأت أولى إرهاصاتها في الثمانينيات من القرن الذي ودعناه، حتى اشتد عودها مع بداية القرن الحادي والعشرين، كل هذا– كما جاء في مقدمة الكتاب – جعل الكاتب يقف على مدى ارتباط هذا الحقل العلمي بالممارسة والقراءة السرديين، ويتقوى هذا الاعتقاد لدى أبلال بعد إطلاعه على عدد من الدراسات والأبحاث المعاصرة، ومن بينها: F. AFFERGAN:1999)) و (M. Kilani:1999) و ( J. P. Gerfaud Et J. P. Tourel: 2004 )، (Clifford Geertz: 1996)، (Sayed Hafez El Asouad :2000) . عند الانتهاء من تأليفه للكتاب، يكون الدكتور عياد أبلال قد أكد أن المنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي قادر على استنطاق مختلف التجليات الثقافية والاجتماعية التي تحفل الكتابات الأدبية السردية بها. كما يمكن أن يجعل من هذه الكتابات حقلا أنثربولوجيّا يغني الحقول الميدانية التي تشكل مسرح دراسات الأنثربولوجيين، خاصة في الوطن العربي. حيث يؤكد أن التراكم لا يزال في بدايته، إذ إن الكاتب السردي مثلما هي الحال بالنسبة إلى القارئ نفسه، وهو يكتب رواية أو قصة يتموقع كأنثربولوجي في انتقاله من نص الثقافة إلى ثقافة النص. بمعنى من المجتمع باعتباره النص الأصلي إلى النص الروائي أو القصصي، باعتباره أثرا إبداعيّا وانتقاء وتركيبا تخييليين لهذا النص المرجعي الذي يشكل مصدر المعطيات لكل من الكاتب الأدبي والباحث الأنثربولوجي. لكن عزم الكاتب سيشتد وستكبر رغبته قوية حد الجموح لمحاولة مقاربة نصوصنا السردية العربية المعاصرة بخلفية نظرية أنثربولوجية، وكله أمل في أن يساهم اشتغاله في مساءلة عدد من القضايا والإشكاليات التي يطمح إلى أن تؤسس لمقاربة نقدية جديدة تبتغي إغناء المشهد النقدي القصصي والروائي العربي، من خلال انفتاحه على المقاربة الأنثربولوجية. ويرى الباحث في السوسيولوجيا أن كل هذا ما كان أن يتم لولا حبه الكبير للأدب الذي مارسه بحكم الهواية لا التخصص على مستوى القصيدة من خلال كتابة قصيدة النثر، ونشرها في منابر عربية وأخرى مغربية، ومن خلال إصداره لديوان شعري (تراتيل البداية 2002) مثلما هي الحال بالنسبة لمقاربة نصوص إبداعية سردية مقاربة نقدية، نشر بعضها في منابر وطنية وأخرى في منابر عربية، كما من خلال كتابة القصة القصيرة التي تركها فيما بعد، ليقينه أنه لن يكون أديبا، خاصة بعد أن جرفه حب السوسيولوجيا والأنثربولوجيا الثقافية مقتفيا أثر الظواهر الاجتماعية والثقافية في الميدان. وإذا كان الخطاب الأنثروبولوجي يرتكز على مستوى آليات وأدوات اشتغاله في بناء خطابه المعرفي على السرد والوصف، وكانت هذه الآليات أهم ما يميز الكتابة الأدبية السردية، خاصة القصصية والروائية منها. وإذا كان الفاعلون في حقل الأنثروبولوجي، أي الأهالي، هم الشخصيات في الكتابة السردية، وكانت الظواهر الأنثربوثقافية والاجتماعية هي الموضوع المميز للأنثربولوجيا، وهي الظواهر نفسها التي يغترف منها الروائي والقاص، وتشكل سياقاته الخارج نصية. أفلا يحق لنا التساؤل –والحالة هاته– عن مدى ارتباط الخطابين معا، وتداخلهما، وبالتالي إمكانية استفادة كل خطاب من الآخر؟ في سياق فرضيات الدراسة، يفترض الدكتور أبلال أن الخطاب الأنثروبولوجي–كما السردي الأدبي– عالمان/ خطابان مبنيان ينطلقان من الواقع نفسه الذي يشكل بالنسبة إليهما العالم المعطى، وأن الأحداث والظواهر الأنثربوثقافية والاجتماعية التي تشكل في إطار تحولاتها وقوة تحكمها في مسارات الأفراد والجماعات صُلب إشكالية الأنثربولوجيا هي السياق خارج النصي في الكتابة الأدبية السردية. يفترض أن الاختلاف والفرق الممكن الوقوف عليهما ما بين الخطابين بخصوص السرد والوصف كأهم مميزات الخطابين هو فرق ناتج عن طبيعة وأهداف التوظيف والاستعمال. يفترض أن الحِياد الإبستيمولوجي الذي يمكن للأنثربولوجي ممارسته في الحقل والذي يشكل في صُلب الممارسة الميدانية في العلوم الاجتماعية عموما المسافة التي يقيمها الباحث تجاه مجتمع دراسته، هي المسافة النقدية التي يقيمها الأديب من خلال تغريب نصوصه وِفق رؤية تخييلية. يفترض أن هناك تقاطعا كبيرا بين مختلف مناهج الكتابة الأنثربولوجية والخطاب الأدبي السردي. يفترض أن الكتابة الأنثربولوجية هي كتابة تناصية، حوارية، تخييلية مثلما هي الحال بالنسبة للكتابة السردية الأدبية (القصة القصيرة والرواية). يفترض أن المؤلف الأدبي هو باحث أنثربولوجي مكتبي، مثلما كانت الحال بالنسبة لجيمس فرايزر، رائد الإناسة المكتبية. يفترض أن القصة أو الرواية يمكن أن يشكلا حقلا أنثربولوجيّا غنيّا بالمعطيات الثقافية والاجتماعية ذات الحضور الرمزي، مثلما يفترض بالضرورة أن القارئ يتموقع في وضعية الأنثربولوجي وهو يقرأ حقله الميداني مستخلصا مختلف الرموز المشكلة للنص السردي في علاقتها التأويلية الرمزية بالثقافة باعتبارها النص الأصلي. ويورد الباحث كرونولوجية القرن التاسع عشر حيث ميلاد العديد من العلوم والتخصصات، ومن جملتها الأنثربولوجيا التي يقول إنها ارتبطت في بداية الأمر بدراسة المجتمعات "البدائية" و"المُتَخَلِّفة"، خاصة تلك التي لا تعرف القراءة والكتابة، متأثرة إلى حد بعيد بالنظرية التطورية التي جاءت خدمة للاستعمار الغربي، آخذة على عاتقها -كما كانت تدعي- حمل هذه المجتمعات من التخلف والبربرية إلى المدنية والحضارة من خلال مفهوم مركزي هو التثاقف؛ لكنه يعود ليؤكد أن أنثربولوجيا القرن التاسع عشر كانت مجرد وسيلة من وسائل إخضاع الشعوب بأقل تكلفة، بعدما ثبت أن القوة والعنف غير كفيلين بذلك. ويتفق الباحث مع العديد من النظريات السائدة في تقييمه لطموحات الغرب في التوسع والهيمنة، فيشير إلى أن إدارة المستعمرات تطلبت معرفة دقيقة بثقافة وسلوكات وخطاطات وأنماط تواصل هذه الشعوب، وهي المهمة التي اضطلعت بها في بداية الأمر البعثات الاستكشافية وأبحاث الأنثربولوجيين الأوائل؛ لكن سرعان ما سوف يتبين أن ثقافات هذه الشعوب لا تقل تعقيدا وأهمية عن ثقافات المجتمعات الغربية، لترتفع بذلك نداءات وأصوات تنادي بأحقية هذه الثقافات وقيمتها الإنسانية، مكسرة جدار الصمت المطبق عليها ومنددة بنوايا وسلوكات المستعمر الشرسة مع بداية القرن العشرين، خاصة مع: فرانزبواس، ومالينونسكي، وبيار كلاستر، وكلود ليفي ستراوس، وآخرون نادوا بنسبية الثقافات، مشددين على ضرورة فصل الأنثربولوجيا عن كل مقصد استعماري أو مصلحي. وهكذا، ومع ازدياد وارتفاع وتيرة البحث المحايد والموضوعي، سوف يتغيّر موضوع هذا العلم من دراسة المجتمعات البدائية إلى دراسة المجتمعات كلها؛ بما فيها تلك التي كانت تدعي التقدُّم، المدنية والحضارة، ليصبح الموضوع هو دراسة المُختَلِف والمُغَاير لثقافة المُعَايِن والباحث، كما كان لإنجازات وتطور عدد من المباحث الفلسفية والاجتماعية، والدراسات اللسانية كبير تأثير على التوجهات الكبرى للأنثربولوجيا، ونتيجة تراكماتها الخاصة، الكيفية والنوعية منها، التي سوف تنحو منحى التخصص، الذي نتجت عنه تخصصات أنثربولوجية قائمة الذات، تعددت بتعدد أولويات وإستراتيجيات الفعل والسلوك. في هذا السياق يورد الباحث عياد أبلال بروز دراسات حول بعض القرى والجماعات الصغرى حتى داخل أوروبا، أمريكا وبريطانيا... على حد سواء، في إطار ما يُسمى حاليّا بالأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية التي أخذت على عاتقها دراسة خصوصيات الإنسان الأنثربو- اجتماعية والثقافية في كل زمان ومكان، ليؤكد بذلك تميَّز الأنثربولوجيا بالنظرة الكُليَّة الشاملة Holistic Method أي المنهج الكلي التكاملي الذي يهدف إلى تحديد جميع عناصر الثقافة في مجتمع ما؛ بُغيَة وصف تحليلي، وتفسير طريقة الحياة التي يعيشها أفراد تلك الجماعة، القبيلة أو القرية من خلال كل ما يصنعه الإنسان من عناصر المادة مثل: اللباس والمباني وطبيعة تصميم هندستها والآلات والأدوات التي يصنعها ويستعملها، ومن خلال فهم كافة أشكال وخطاطات التواصل الثقافية، وتطبيقاتها الاجتماعية، من عادات وتقاليد، ونُظم القَرابة والزواج، وأنساق التداول الاقتصادي، والمعتقدات والطقوس الدِينية، وتصورات وتمثلات الأهالي حول العالم والأشياء من خلال الغوص في اللاشعور الجمعي. ومع اعتماد الأنثربولوجيا على تقنيات المشافهة والمعاينة والمقابلة، ثم المقارنة والتحليل الدلالي لخطاب الأهالي، كما التحليل السيميوثقافي لعلاماتهم ورموزهم التداولية، كما هو الشأن بالنسبة للأنثربولوجيا الرمزية التأويلية التي جعلت ثقافة الباحث جزءا لا يتجزأ من ممارساته الحقلية، سيبقى سؤال الحِياد معلقا حسب أبلال، وهو ما فتح بحسب رأيه أبواب التعالق ما بين هذا الحقل العلمي والأدب السردي؛ حيث ستعرف الممارسة الكتابية الأنثربولوجية بدورها تحولات إبستيمولوجية كبيرة، كان أبرزها الاعتراف بأدبية الخطاب الأنثربولوجي نفسه، الذي أصبح مع جليفورد جيرتز ومندر كيلاني وجون بيير طوريل وآخرين ممارسة كتابية تتطلب موهبة أدبية سردية. إن السؤال الجوهري المفروض في هذا السياق من وجهة نظر عياد أبلال هو: كيف يمكن أن نلامس مختلف هذه القضايا والمقاطع المشكلة للبحث الأنثربولوجي من خلال نص أدبي/سردي، وبالتالي كيف تحضر الثقافة بكل مكوناتها ومفاصلها في نص قصصي أو روائي؟ إن الباحث عياد لا يشك لحظة في شرعية السؤال / الإشكالية بل أكثر من ذلك يعتبره دافعا قويا تجاه الغوص بعمق في نصوص ثلة من القاصين والروائيين العرب بخلخلة وتحليل وفهم خطابهم السردي من خلال الإجابة عن عدد من الأسئلة المنهجية، التي تشكل في نظر الباحث ابلال عتبات أولية للمنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي الذي يسعى إلى صياغته وتطبيقه على الأدب السردي، بعدما كان منهجا أنثربولوجيّا خاصا بالحقل الأنثربولوجي المرتبط بالدراسات الميدانية، فكيف إذن: 1 يقدم كتاب السرد خطابا إثنوغرافيا عن القرية؟ 2 يعالجون قضايا المقدس؟ وأنظمة القَرابة والزواج؟ 3 يلامسون السحري والخرافي في خطابهم السردي؟ 4 ما هي مختلف التقاطعات التي نجدها تاوية في نصوصهم بين هذا الخطاب السردي باعتباره إبداعا أدبيّا والإثنوغرافيا؟ 5 كيف تحضر مختلف الشعائر والعادات والتقاليد والطقوس الاحتفالية في المتن السردي؟ 6 إذا كان هناك تقاطع بين النظريات والقضايا المعرفية الأنثربولوجية، ومختلف مكونات هذا الخطاب السردي، فهل هو تناص معرفي يدخل فيما يُسمى بالمعرفة الضمنية في علم اجتماع المعرفة، أم هو بَوح هؤلاء الأدباء أبناء البلد موضوع الدراسة، استنجدت ذاكرتهم بسيناريو المعيش اليومي في مرجعياته وتطبيقاته الأنثربوثقافية والاجتماعية من خلال القراءة الأنثربورمزية التي تشكِّل وساطة الإنسان في علاقته بالعالم على مستوى الشعور بالكتابة والألم؟ أم هو أحد تجليات وتطبيقات التخييلي من منظور الأنثربولوجيا الأدبية؟ كيف يجوز لنا أن ننتقل من خطاب أنثربولوجي مؤسس علميّا إلى خطاب أدبي سردي يرتكز على ممارسة كتابية نصية/تخييلية بالأساس؟ هل المشترك النصي بين الخطابين كافٍ لتبرير هذا الانتقال من خلال اعتماد المقارنة بين تقنيتين مؤسستين لكل من الخطابين، وهما الوصف والسرد؟ إذا كان الأمر كذلك فالمعنى الذي سيوجهنا على مستوى الاشتغال سيكمُن في الإجابة عن سؤال: ما مرجعيات وممكنات البناء التخييلي لكل من الخطابين؟ ضمن هذا الأفق سيحاول الدكتور أبلال تقسيم كتابه إلى بابين؛ حيث سيخصص الباب الأول الذي عنونه ب: (من الأنثربولوجيا إلى الأدب)، وهو عنوان استعاره من الباحث: (بيير لاكومب) في دراسته للمدارات الحزينة ل (ليفي ستراوس)، لتتبع مسار الخطاب الأنثربولوجي وتحولاته التاريخية على مستوى التنظير والممارسة، خاصة يضيف المؤلف أن هذا الخطاب قد مرَّ منذ نشأته بمراحل مفصلية كان أبرزها ارتباطه بالاستعمار؛ حيث برزت عدد من المدارس والنظريات التي كرَّست هذا الارتباط ومنحته الشرعية كالتطورية والانتشارية، لتأتي فيما بعد مدارس أخرى عجلت باستقلال هذا الحقل المعرفي كالوظيفية والمدرسة الثقافية الأمريكية، ليصبح من ثمَّ من أبرز الحقول العلمية الاجتماعية، وهو ما تأكد ببروز عدد من المدارس والاتجاهات التي قدمت بفضل التراكم المعرفي نوعيّا وكميّا فهما أساسيّا لمجموع الظواهر الأنثربولوجية باختلاف الثقافات والمجتمعات. هكذا، إذن، برزت الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية، وأخيرا التأويلية الرمزية باعتبارها المدرسة التي حققت تلاقحا كبيرا بين مختلف التخصصات الاجتماعية من جهة، والأدب من جهة أخرى؛ وهو ما سوف يحاول المؤلف دراسته بكثير من التفصيل والعمق في الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب، ليدرس في الفصل الثاني الذي سيعنونه ب: (التقصِّي الأنثربولوجي من الحقل إلى إنتاج الخطاب) علاقة مختلف مناهج الأنثربولوجيا بالأدب، محاولا توضيح الأسس الإبستيمولوجية التي ينبني عليها هذا الخطاب، خاصة على مستوى الكتابة، وهو المَسعى الذي سيحاول من خلاله في المحور الأول من هذا الفصل دراسة الملاحظة باعتبارها أساس التقصِّي الأنثربولوجي، ومن ثَم مختلف الخطاطات الوصفية التي تقوده إليها هذه الملاحظة التي يعتمدها في تسجيل معطيات الميدان الثقافية والاجتماعية، بكل خلفياتها السردية؛ إذ إن الأنثربولوجي وهو ينقل معطيات الميدان إلى مذاكرته يقوم بانتقاء للزمن والمكان يجعله بالنتيجة يمارس تخييلا من نوع خاص أساسه التأويل الرمزي لنص الثقافة، التي يكون الحوار بينه وبينها أساس العلاقة التي يقيمها مع الأهالي. من هذا المنطلق، حاول الباحث السوسيولوجي تبيان الخصوصيات السردية للميدان من خلال استخلاص بنيات كتابية سردية: كالحوار، والتناص، والحوارية من نصوص أنثربولوجية محضة، في أفق تبيان طبيعة الخطاطات السردية للخطاب الأنثربولوجي ما بين أفقي التفسير والتأويل؛ حيث حاول التأسيس لأدبية الخطاب الأنثربولوجي ولأنثربولوجيا الخطاب الأدبي السردي، بشكل تماثلي في الآن نفسه من خلال المحور الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول، حيث سيعنونه ب: (أدبية الخطاب الأنثربولوجي أو الأدب كظاهرة أنثربولوجية) وسيركز فيه على الأسس النظرية للتخييل في الخطاب الأنثربولوجي من خلال استشهادات ونصوص أنثربولوجية لكبار الباحثين الغربيين في هذا المجال؛ الشيء الذي سيمنح الشرعية لاعتبار الأدب ظاهرة أنثربولوجية، حسب رأيه والتي سيحاول التأسيس لها نظريّا من خلال نقل المنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي من الدراسات الحقلية الميدانية إلى دراسة الأدب، ومن ثَم اعتبار الأدب السردي بمثابة الميدان في الأنثربولوجيا، وهو السند الذي سيحاول الاعتماد عليه نظريّا لجعل الكاتب الأدبي (القاص أو الروائي) أنثربولوجيّا مكتبيّا كما كان الحال بالنسبة إلى: (جيمس فرايزر)؛ رائد الإناسة المكتبية، وهي الخلفية النظرية نفسها التي يتحول من خلالها القارئ نفسه إلى أنثربولوجي لحظة القراءة. أما في الباب الثاني من هذا الكتاب والذي سيحمل عنوان: (تجليات الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية في الخطاب السردي العربي المعاصر) فسوف يحاول المؤلف إخضاع ما قام بصياغته نظريّا في الفصل الثاني من الباب الأول للتقصي والتجريب، من خلال تطبيق القراءة الأنثربولوجية التأويلية الرمزية على عدد من المُتون السردية المغربية والعربية، ممثلة في القصة القصيرة والرواية المعاصرتين، محاولا استخلاص خطاب أنثربولوجي حول المغرب والوطن العربي ثقافيّا واجتماعيّا من خلال مختلف التجليَّات الأنثربولوجية ذات الصلة في هذه المُتون، وهكذا سوف يقارب متونا سردية من المغرب والجزائر ومصر والعراق والسعودية واليمن. هكذا، سوف يدرس في الفصل الثالث (تجليات الأنثربولوجيا الاجتماعية في الخطاب الأدبي السردي العربي المعاصر) عبر محورين اثنين؛ المحور الأول سيخصصه لمورفولوجيا الأشكال الاجتماعية من خلال: المعيش اليومي بالقرية والأوساط الشعبية، ثُم نظم القَرابة والزواج من خلال استحضار تمفصل زمني مرجعي في هذا السياق وهو زمن الحكي وزمن الصورة، محاولا تبيان طبيعة خطاطة التواصل بين الجنسين، لينتقل إلى أنثربولوجيا البناء الاجتماعي ما بين الخرافي والمعيش اليومي في تحولاته؛ حيث المحور الثاني من هذا الفصل، الذي سيحاول من خلاله دراسة طُقُوس السحر والشعوذة والبناء الأنثربوأسري؛ حيث يحتل الجنس/الدم مركزية رمزية على مستوى البناء. أما الفصل الرابع من هذا الكتاب (تجليات الأنثربولوجيا الثقافية في الخطاب السردي العربي المعاصر)، فسوف حاول الباحث من خلاله دراسة مختلف التجليات ذات الصبغة الثقافية أنثربولوجيّا في عدد من المُتون السردية العربية، عبر محورين أساسيين: المحور الأول سيخصصه لأنثربولوجيا التأصيل والهوية، خاصة أن البحث في الأصل والانتساب الثقافي أصبح يحظى بأهمية كبيرة في البحث الأنثربولوجي الثقافي، في عصر العولمة هذا، من خلال تركيزه على مختلف الرموز التلخيصية للهوية في بعدها المادي. وسيدرس المِعمار التقليدي والديكور الداخلي للبيت المغربي، ثُم المطبخ وطقوس الضِيافة، واللباس التقليدي، مثلما هي الحال بالنسبة إلى الرموز التلخيصية للهوية في بعدها الرمزي؛ حيث سوف يحاول دراسة موسيقى الآلة، ليدرس فيما بعد توتر الذاكرة الجمعية العربية في زمن القمع. أما في المحور الثاني من الفصل الرابع: (أنثربولوجيا الجسد والحداثة) فإن عياد أبلال سيحاول في إطار التعالق بين الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية دراسة عدد من القضايا التي سبق أن درسها في الفصل الثالث، مثلما هي الحال بالنسبة إلى العلاقة بين الجنسين، بكل ما يقتضي ذلك من حضور جوهري للجسد. ولذلك، سوف يحاول الاحتفاظ بالتقسيم الزمني نفسه الذي جعله خلفية للدراسة والتحليل في الفصل السابق، ألا وهو زمن الحكي وزمن الصورة، مركزا على البُعد الثقافي لهذا التقسيم. في هذا السياق، سيحاول أنثربولوجيّا تبيان خصوصيات هذا التقسيم/الثنائية من خلال طبيعة التحولات التي عرفها الجسد الأنثوي ما بين ثقافة الأُذن وثقافة العَين، وطبيعة البناء الثقافي المعاصر للجسد الذي سيحاول دراسته في تمفصله ما بين مجالي المُقدَّس والمُدنَّس، من خلال الحمام الشعبي. أخيرا، وفي ظل التحولات الاجتماعية التي بات يعرفها هذا الجسد في انتهاكاته ومعاناته اليومية، سيحاول دراسة الألم أنثربولوجيّا عبر استخراج مختلف التجليات الأنثربولوجية للألم العاطفي من هذه المُتون السردية، في أفق بناء خطاب أنثربولوجي حوله ليختم هذا الكتاب بخاتمة تلخيصية لمختلف المراحل التي مرَّ بها على مستوى البناء والاشتغال، في انسجام وترابط مع النتائج الأنثربولوجية التي سوف نستخلصها في دراستنا للبناء الأنثربواجتماعي والثقافي، كما لو أننا في دراسة ميدانية. لكن المؤلف سيشير في نهاية مقدمته إلى أن المُتون السردية التي قام بدراستها لا تمثل السرد العربي تمثيلا شاملا وكُليا بقدر ما تمثل تجارب أصحابها، خاصة أمام التراكم الكبير الذي شهده السرد العربي كميّا وكيفيّا، إذ أمام استحالة الإلمام بكل التجارب وقراءتها فعليّا، قام بدراسة ما توفر لديه من هذه المُتون سواء التي توصل بها من أصحابها في إطار العلاقات الثقافية التي تربطه مع العديد من الكُتاب والكَاتبات أو سواء تلك التي قام بترشيحها كمُتون تطبيقية بعد قراءته لعدد من المجاميع القصصية والروايات التي سبق أن اقتناها من المكتبات أو معارض الكِتاب والتي وجده أنها غنية بالمقاطع السردية التي تلبِّي على مستوى الموضوع حاجة اشتغاله في هذا الكتاب. لا بد من تسجيل أن المؤلف حاول قدر المستطاع تجاوز الصعوبات التي اعترضت مسار اشتغاله في هذا الكتاب، وخاصة ندرة المراجع والدراسات التي تناولت الموضوع نفسه؛ فباستثناء المراجع الأجنبية لا وجود لأي كتاب في الموضوع. وعلى المستوى الجامعي، فقد حاول العثور على أطروحة تناولت الأدب من منظور أنثربولوجي فلم يعثر على شيء. ولذلك، يشكل هذا الكتاب من وجهة نظره تدشينا على المستوى العربي لمقاربة جديدة للأدب السردي يتمنى أن تأتي بعده كتب ودراسات أخرى. ليخلص ويستخلص من خلال المُتون السردية التي توفرت لديه أن البناء الأنثربواجتماعي للمجتمع العربي مر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الحكي التي تحيل على ثقافة الأذن، وهي المرحلة الأولى، التي عاشها العالم العربي قبل دخول التلفاز، أي مرحلة الحكي والسماع والتي تجد في المذياع رمزها التلخيصي، وباقي وسائط الاتصال الجماهيرية المرئية كالتلفزة، والسينما، والفيديو، والدش... وهي المرحلة التي تميز البناء الأنثربوأسري فيها بهيمنة ذكورية واضحة وبخضوع المرأة التام للرجل، حيث لم تكن تملك الحق حتى في جسدها. ولذلك، كان هذا الجسد طابوها يصعب الحديث عنه، مثلما شكل دم البكارة رمزا للشرف والعفة ورأسمالا رمزيّا للعائلة؛ الشيء الذي جعله محددا جوهريا للبناء الأنثروأسري. وتأسيسا على هذا المعطى، سيستخلص الباحث أهم القيم الاجتماعية التي كانت تحكم خطاطة التواصل بين الجنسين، من خلال دراسته للسحر والشعوذة كأهم سلاح كانت توظفه النساء للنيل من جبروت الرجل وهيمنته، وللعنف الأنثربوأسري بشكل عام، حيث الهيمنة الذكورية المؤسسة على فحولة متخيلة أهم ميزة هذه الخطاطة. وبالمقابل، يتأسس البناء الاجتماعي للأسرة على المستوى القيمي، حيث المرأة موضوع هذه القيم والعامل المحافظ عليها في آن، على قيم الحشمة، الشرف (دم البكارة)، العفة، العار، والصبر... لتبقى السلطة بالبيت الأسري موضوع صراع خفي أحيانا وجلي أحيانا أخرى يجد تصريفاته على مستوى السحر والشعوذة، خاصة بين الجنسين. لكن عملية تحليل ودراسة زمن الحكي سيحيل الباحث من خلال المنهج الأنثربولوجي التأويلي الرمزي انطلاقا من القرية والحي الشعبي باعتبارهما أفضية اجتماعية كانت إلى عهد قريب أفضية مغلقة قبل دخول التلفاز وباقي الوسائط الأخرى على المكون الأنثربولوجي لأهم تجليات تحولات البناء الاجتماعي، حيث تكمن أهم التحولات التي عرفتها الأسرة العربية في انتقالها من صيغتها الممتدة إلى صيغتها النواتية، بكل ما يحيل ذلك على تفكيك سلطان الجدة/الحماة، لصالح سلطة الزوجة التي أصبحت عنصرا وظيفيّا في البناء الأنثربوأسري، مع المرحلة الزمنية الثانية التي اعتبر فيها التلفزة عتبتها الأولى، فقد شكلت -بالنسبة إليه- الانتقال الاجتماعي من ثقافة الأذن إلى ثقافة العين وهو انتقال سيعرف من خلاله البناء الأنثربوأسري تحولات جوهرية، كان على رأسها التحرر الاجتماعي الذي عرفه جسد المرأة، والذي شكل بدوره تمهيدا لتحولات كبيرة ستعرفها خطاطة التواصل بين الجنسين مع السينما، الفيديو، والدش... وهي وسائط جماهيرية للاتصال كانت كما استخلص من المُتون السردية، من أهم العوامل المشجعة على الهجرة القروية خاصة بالنسبة للشباب من الجنسين، نظرا للتأثير الكبير للصورة بكل إيحاءاتها الإيروسية التي عجلت بعدد من التحولات القيمية، وهي تحولات ثقافية بالدرجة الأولى.