يسعى هذا الكتاب إلى تقديم مسح تحليلي موجز عن الدراسات الأنثربولوجية في ساحتنا الثقافية العربية، بدءا من المغرب العربي مرورا ببلاد الشام وشبه الجزيرة العربية ووادي النيل، والتي ما تزال الدراسات الميدانية بخصوص تاريخها الثقافي لا تحظى بالاهتمام الكافي من قبل مؤسساتنا البحثية والتعليمية مقارنة بالجهود الغربية. وتشمل هذه الدراسة وجهتي نظر لمتخصصين في مجال الأنثربولوجيا العربية، حيث شمل القسم الأول تقديم محصلة ومسح للحقل الأنثربولوجي في المشرق العربي، وقد أشرف على كتابته الدكتور أبو بكر باقادر أستاذ الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك عبد العزيز. أما القسم الثاني فقد عني بتقديم صورة عن جهود العلماء المغاربة في هذا الحقل أمثال: عبد الله حمودي وفاطمة المرنيسي، وأسماء عديدة أخرى سعت منذ سنوات لتقديم سردية ثقافية وتاريخية مغاربية بجهود محلية أصيلة. وقد أنجز مخطوطة هذا الفصل الدكتور حسن رشيق أستاذ الدراسات الأنثربولوجية في جامعة الحسن الثاني. الأنثربولوجيا والرواية العربية شهدت المؤسسات الأكاديمية في أغلب دول العالم العربي منذ الستينات تأسيس أقسام علمية خصصت للدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية. وكان بعضها قد تأسس بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية غربية عريقة أو بإشراف بعض العلماء البارزين أمثال إيفانز برتشارد صاحب الأطروحة الشهيرة عن «النوير» في السودان، والتي غدت مرجعية وأرضية لتطوير العديد من الأدبيات في الحقل الاجتماعي، والذي ساهم في تأسيس قسم الأنثربولوجيا بجامعة الإسكندرية. ولقد تولد عن هذا التأسيس أدبيات باللغة العربية حول الموضوع، كانت عبارة عن كتب عامة اهتمت بتقديم مادة «تعليمية» وليس القيام بالبحث العلمي ودراسة المجتمعات المحلية والعناية بدراسة الواقع. لكن رغم هذا الغياب والفقر في الأوساط الأكاديمية للمشرق العربي، والتي بقيت بقسمها الأكبر تعتمد على مفاهيم ونظريات اجتماعية كانت قد وضعت منذ عقود في «ثلاجة» العلوم الاجتماعية الغربية. فإننا نلحظ بروز جهود من خارج سرب العلوم الاجتماعية أخذت ترث مهمة الباحث الاجتماعي الذي بتعبير الأنثربولوجي الفرنسي كلودليفي شتراوس بات من أصحاب «المقاعد الوثيرة» من ناحية الكسل حيال الدراسات الميدانية للجماعات التي يدرسها، لا بل إن بعضهم بات مفعما بنموذج «المجتمعات الباردة» العربية والإسلامية في مقابل «المجتمعات الحارة» الغربية، دون أي محاولة جادة للبحث في المسكوت عنه والمنسي في حياة مجتمعاتنا العربية المعاصرة. ولذلك نجد أن بعض الروائيين العرب قد ورثوا هذه المهمة من خلال ما قدموه من روايات يغلب عليها الطابع الأثنوغرافي(الوصفي) لجوانب من حياة مجتمعنا وثقافتنا. فالروايات التي جعلت موضوعها عالم البدو والصحراء، وما تشهده من تحولات وتغيرات في أعمال أمثال عبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني وميرال الطحاوي تشكل نقلة نوعية في أساليب تقديم ثقافة هذه المجتمعات وحياتها. هذا بالإضافة إلى الأعمال الروائية العديدة التي ساهمت في تقديم سردية سوسيوتاريخية للبنى الأيديولوجية والتحولات الهامة التي مرت بها مجتمعاتنا العربية في العقود القليلة الماضية. الأنثربولوجيا والمجتمع يحاول د. باقادر في هذا الفصل الإشارة إلى بعض الجهود الجديدة في الحقل الاجتماعي العربي، والتي ما تزال تمثل جهودا فردية لم ترتق إلى حالة مشاريع فكرية وأكاديمية. وخاصة في ظل خطاب فكري مشرقي بقي برأينا يرزح تحت تأثير لوثاته المادية والماركسية في العقود الأخيرة، وظل مفتونا بانعكاسات صورته النرجسية العقلانية على صفحات الماء، حتى غرق في شبر منها أمام تجليات الظاهرة الثقافية والدينية بشكل عام.» ثمة عوائق تحول دون بروز خطاب معرفي جديد، ولكن هذا لا تعني تجاهل بعض المحاولات الجادة والرائدة التي نعثر عليها مؤخرا في عالم الحريم العربي مثلا، والتي أخذت تؤسس لقطيعة معرفية مع الخطاب الحداثوي النسوي الغاضب بيد أن هذه العوائق الحائلة دون بروز خطاب معرفي جديد، لا تعني تجاهل بعض المحاولات الجادة والرائدة التي نعثر عليها مؤخرا في عالم الحريم العربي مثلا، والتي أخذت تؤسس لقطيعة إبستمولوجية (معرفية) مع الخطاب الحداثوي النسوي «الغاضب» على حد تعبير فهمي جدعان، وذلك من خلال تأكيدها على عدم التعامل مع المرأة في العقود الأخيرة بوصفها كائنا مهمشا أو مهضوم الحقوق كما تصوره بعض الأدبيات النسوية التقليدية. وضمن هذا الجهود يشير الباحث إلى تجمع الباحثات اللبنانيات الذي أخذ يعمل في السنوات الأخيرة بهدوء وراديكالية ثقافية من ناحية النضج الفكري وتعدد المقاربات. وكذلك نجد قراءات جديدة لموضوع علاقات القرابة والزواج في مجتمعنا العربي المعاصر، الذي يعد أحد المشاريع الأساسية للبحث الأنثربولوجي بشكل عام. ففي دراسة كتبت مؤخرا عن تاريخ الزواج في مدينة جدة السعودية، نجد تحولات متسارعة في جوانب عديدة لحياة الأسرة وتشكلها، منها تزايد تفضيل الزواج الخارجي الذي تكون فيه معايير الاختيار عصرية تعتمد مثلا على التشابه الطبقي والثقافي والاقتصادي أكثر من الاهتمام بالقرابة، والإصرار على استقلالية الأسرة الجديدة في السكن والمعيشة، مولدة بذلك قطيعة مع استمرارية نقل تقاليد الحياة الأسرية وأعرافها عبر الأجيال. كمل حفلت المكتبة الأنثربولوجية العربية ببعض الدراسات التي تناولت المجتمعات الرعوية والريفية، مثل دراسة الباحثة اليابانية موتوكو كاتاكورا لقرى وادي فاطمة بالقرب من مكة. حيث قدمت تفصيلا لحياة سكان هذه القرى في الستينات من الناحية الثقافية والاجتماعية والديمغرافية، قبيل انفجار ما عرف بالطفرة النفطية التي صاحبتها تحولات بنيوية وحركة سكانية واسعة في شكل هجرات ريفية. مما ساهم في عقد العديد من المقارنات بين ما كان عليه الوضع وما صار عليه في منطقة ربما كانت مثالا لما كانت عليه معظم بلدات المملكة وقراها حتى ذلك الوقت. الأنثربولوجيا والتاريخ يتطرق الكاتب في مناسبات عديدة في الكتاب للجهود الرائدة لبعض المؤرخين أمثال نيللي حنا ومحمد الارناؤوط، وغيرهم ممن أخذوا يؤسسون لما يعرف بحقل» الأنتربولوجيا التاريخية» الساعي إلى إعادة الاعتبار لدائرة بشرية واجتماعية مغايرة، من خلال الاعتماد على مصادر جديدة قادرة على البوح بمعطيات مغايرة عن فضاءات المدينة الإسلامية ، مثل السجلات الشرعية أو سجلات المطابخ لبعض الولايات العربية العثمانية والتي تساعدنا على الاحاطة بالتغيرات والتحولات الطارئة على نمط وثقافة الطعام، وبالتالي ثقافة المجتمع بشكل عام. وفي هذا السياق يشير الكاتب لدراسة الباحثة الألمانية ليندا شيلشر «دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر» التي عكفت على تقديم حفريات في الوثائق والسجلات لتقدم لنا تفاصيل إثنوغرافية عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دمشق، وعن الشرائح الاجتماعية الدمشقية الي كانت مؤثرة على الحياة فيها حيث دونت بشكل طريف حيوات الأسر التي سيطرت وتعاقبت على المناصب العليا والصراعات والقوى التي كانت تشكل حيواتهم واستمرار قبضتهم على القوة أو سقوطهم وتدهورهم في سلم الحراك الاجتماعي . الممارسة الأنثربولوجية بالمغرب يروم د. حسن رشيق في القسم الثاني من الدراسة إلى إعطاء فكرة عامة عن الممارسة الأنثربولوجية بالمغرب العربي، مع التركيز على إنتاج الباحثين المغاربة الذي لم يعن إلا نادرا بالتحليل والنقد مقارنة بما كتب حول الأنثربولوجيين الأجانب الذين اختاروا المغرب أو شمال أفريقيا ميدانا لهم. حيث يمكن القول برأي الكاتب إن الاهتمام المسترسل بالبحث السوسيولوجي الذي ساعد على تأسيس الممارسة الأنثربولوجية تعود نشأته إلى بداية الستينات من القرن المنصرم. فقد كانت هذه الممارسة البحثية تعد وقتها فعلا سياسيا ونضاليا يروم تغيير المجتمع وجعله أكثر عدالة، ولما كانت الدولة الفاعل المركزي في سيرورة التغيير الاجتماعي فقد انخرط كثير من الباحثين الرواد، ومعظمهم ذوو ميولات سياسية يسارية، في تفعيل السياسات العامة خصوصا بالمجال الريفي. الأنثربولوجيا السياسية بعد حديث الكاتب عن السياق السياسي الذي عايشته البدايات التأسيسية للبحث الأنثربولوجي داخل المغرب، يتطرق إلى بعض الأعمال الميدانية المعدة من قبل «الأنثربولوجي الأصيل» المغربي على حد تعبيره والتي تركزت في حقلي الأنثربولوجيا الدينية والسياسية. وقد آثرنا هنا أن نشير إلى الجانب السياسي الذي لا نجد محاولات شبيهة له إلا نادرا في الجانب المشرقي العربي. حيث تهتم الأنثربولوجيا السياسية بالاستعمال السياسي للطقوس في ظل الصراعات السياسية، والتي عادة ما تقوم بالتشديد على استعمالات الرموز الدينية ذات الصلة بمعتقدات الأمة في إطار التعبئة السياسية، كما فعل القوميون المغاربة في عام 1933م حينما دعوا الجماهير إلى مقاطعة صلاة الجمعة وعدم الاحتفال بعيد الأضحى، أو كما حدث في عدد من الدول العربية منذ سنوات حينما تحولت صلاة الجمعة برأينا إلى مناسبة دينية وسياسية في نفس الوقت، وتعبيرا من تعابير الرفض السياسي لأيديولوجية السلطة. مما يبرز كيف أن الديني يصبح في أحيان عديدة تابعا للمنطق السياسي. وفي هذا السياق يتطرق رشيق بالنقد لدراسة الأنثربولوجي المغربي عبد الله حمودي «الشيخ والمريد» والتي تعد من الدراسات المبكرة في هذا المجال، والتي أثارت نقاشا واسعا، وكانت أرضية مناسبة لكتابة العديد من الدراسات حول العلاقة بين الطقسي والسياسي من أمثال دراسة الباحث المغربي المتميز نور الدين الزاهي عن «الزاوية والحزب في المجتمع المغربي». حيث ينتقد حمودي في دراسته السالفة الذكر قصور الفرضيات التي تفسر استمرارية النظام الاستبدادي التسلطي في المجتمعات العربية بردها فقط إلى البنيات الاجتماعية والاقتصادية. واقترح بدل هذا المقترب التركيز على التركيبة الثقافية التي سادت المجتمع المغربي قبل الاستعمار والبحث عن ميكانيزمات ثقافية لهذه الظاهرة التسلطية. وتتلخص فرضيته «في تسرب خطاطة ثقافية من مجال الصوفية والولاية إلى المجال السياسي، وهذه الخطاطة التي استندت إليها علاقات السلطة واستمدت منها ديناميتها هي في نظره علاقة الشيخ بالمريد، والتي أساسها الازدواجية وقلب الأدوار الاجتماعية، وهما شرطان للتكوين الصوفي وللترقية عبر كل الدرجات المؤدية إلى مرتبة الشيخ. ويعني هذا أن كل من يطمح إلى مشيخة وجب عليه القلب المؤقت، أي أداء دور الأنثى في علاقته مع الشيخ: الطهي، الاحتطاب، الطحين، غسل ثياب الشيخ وإعداد فراشه، كما تتسم بصفة عامة بقطع الصلات مع العائلة والاستسلام للشيخ. ولعل هذا النسق الثقافي هو ما انتقل إلى حيز النسق السياسي العربي من خلال علاقة السلطة السياسية بمواطنيها. بينما يرى رشيق من جانبه بأن مسرحة حمودي لظاهرة تقبيل يد الملك لا تعبر عن «أنس للطاعة» تجاه السلطة، وإنما تكاد تكون ظرفية، ودراستها تعود لبروتوكولات وتقاليد سياسية أكثر منها إلى علاقة سلطوية تسمو على السياق التاريخي. وبالتالي فإن منهج حمودي عشوائي، بمعنى أنه يرجع إلى تاريخ النظام السياسي وآداب المناقب منتقيا الوقائع التي تعزز فرضيته، وهو يكاد يغفل الدراسات والمعطيات التي تبين أن الوصول إلى السلطة يمر أيضا عبر الهامشية والمعارضة والتمرد بدل الخضوع والتقرب. وبالتالي حصر الخضوع في الدوافع الثقافية يؤدي إلى انزلاقات تعطي للنماذج الثقافية وزنا يكاد يقترب من الحتمية الاجتماعية .