تحظى المسطرة التأديبية للقضاة في مختلف الأنظمة القضائية عبر العالم باهتمام بالغ من الباحثين والمهتمين، بالنظر لكونها مؤشرا لقياس أمرين أساسين، يتعلق أولهما بمعرفة الضمانات الممنوحة للقضاة فيها والتي لها علاقة أساسا بضمانات استقلاليتهم كأفراد عند بتهم في القضايا المعروضة عليهم، بحيث يعد تنظيم المساطر التأديبية بشكل يتوافق مع المبادئ الدستورية أحد مظاهر هذه الضمانات، فيما يتعلق المؤشر الثاني بمعرفة مدى ربط المسؤولية بالمحاسبة في النظام القضائي، فمع منح القضاة استقلالا فرديا تاما للبت في القضايا المعروضة ودون تدخل من أي جهة كانت مع احترام قاعدة التطبيق العادل للقانون، فإنه يجب تنظيم مسطرة المساءلة التأديبية التي تقف حائلا دون استغلال هذا الاستقلال في غير هدف المشرع من إقراره، ولكن ذلك يجب أن يتم بضمانة أساسية منصوص عليها في النصوص القانونية وفي مؤسسات المجالس العليا للقضاء / للسلطة القضائية (حسب تسمية كل بلد) كجهة ساهرة على تطبيق هذه الضمانات. والمشرع المغربي كغيره من المشرعين نظم المسطرة التأديبية للقضاة منذ دخول النظام القضائي العصري للمغرب، إلا أن هذا التنظيم، من حيث تفصيله وجودته، اختلف حسب الفترات، وآخر المستجدات التي حصلت على هذا الصعيد ما صدر مؤخرا بالجريدة الرسمية تحت عدد 7180وتاريخ 23-03-2023 من تعديلات همت القانونين التنظيميين المتعلق أحدهما بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وثانيهما بالنظام الأساسي للقضاة، ومنها ما تعلق بالمسطرة التأديبية للقضاة وذلك بعد مرور حوالي ست سنوات على دخول هذا القانون حيز التنفيذ وتحديدا بتاريخ 06-04-2017. فما هي أبزر هذه المستجدات وسياقاتها؟ وقبل ذلك كيف كان المشرع ينظم المسطرة التأديبية للقضاة في ظل الظهير المتعلق بالنظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974 والقانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للسلطة والنظام الأساسي للقضاة المصادق عليهما من طرف المجلس الدستوري السابق بتاريخ 15-03-2016؟ أولا: المسطرة التأديبية للقضاة قبل التعديلات الحالية: سوف نقف على المسطرة التأديبية في إطار ظهير 1974 وبعدها في إطار القانونين التنظيمين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة الصادرين سنة 2016. المسطرة التأديبية في إطار ظهير 1974: المسطرة التأديبية للقضاة في إطار ظهير النظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974 الملغى كان لوزير العدل آنذاك دور كبير فيها، بحيث كان هو الجهة التي تشرف على التحريات والأبحاث بواسطة المفتشية العامة للوزارة التي كانت تتبع له بشكل كلي، وبعدها يعين قاضيا مقررا لمواصلة البحث مع القاضي المعني بالمخالفة، بعد استشارة الأعضاء المعنيين بالمجلس الأعلى للقضاء بقوة القانون وهم الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك ورئيس الغرفة الأولى بها، وبعدها يتم عرض ملف القاضي على المجلس الأعلى للقضاء كجهة تأديب حيث يمكنه، بعد الاستماع إلى القاضي بحضور مؤازر له من أحد زملائه القضاة أو أحد المحامين برغبة من المعني بالأمر، التصريح ببراءة القاضي أو اقتراح مؤاخذته أو القيام ببحث تكميلي في القضية أو إمكانية تأجيل البت عند وجود متابعة جنائية إلى أن يقع البت فيها بصفة غير قابلة للطعن. والملاحظ على هذه المسطرة التأديبية في ظل ظهير 1974 ، أنها كانت جد مقتضبة (حوالي ثلاثة فصول) وبالتالي لم يتم تنظيم العديد من المواضيع المرتبطة بها، ومنها طريقة المثول أمام المجلس ووسائل الدفاع ونسخ الملف التأديبي وتقادم المخالفة التأديبية ورد الاعتبار، فضلا عن أن قرارات المجلس فيها لم تكن معللة، بل إن عقوبة الدرجة الأولى كانت تصدر بعد استشارة المجلس فقط بقرار لوزير العدل وعقوبات الدرجة الثانية المتعلق بالتدحرج من الدرجة والتوقيف والإحالة للتقاعد والعزل كانت تصدر بظهير(المادة 60) باقتراح من المجلس، كما لم تكن قرارات المجلس خاضعة لأي طعن. 2-المسطرة التأديبية في إطار القانونين التنظيميين المصادق عليهما سنة 2016. بعد المصادقة في استفتاء شعبي على دستور 2011، عرف القضاء المغربي عدة تغييرات وتعديلات همت النصوص القانونية المؤطرة لعمله دستوريا وقانونيا، حيث تم على مستوى النصوص القانونية إقرار العديد من الحقوق والواجبات المتعلقة بالقضاة كأفراد لتتلاءم مع نصوص الدستور الجديد متأثرة بشكل أو بآخر بالنقاشات التي أعقبت فترة إقرار هذا الدستور، ومن ذلك ما تعلق بموضوعنا الحالي الذي يهم المسطرة التأديبية للقضاة. وهكذا جاءت هذه المسطرة مفصلة ومتضمنة لعدة حقوق وضمانات مهمة إذا ما تمت مقارنتها بما كان منصوصا عليه في ظهير 1974 السابق الإشارة اليه ، بدءا من مرحلة إجراء الأبحاث والتحريات التي تقوم بها مفتشية عامة للشؤون القضائية تتبع وظيفيا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق ما قرره المجلس الدستوري في قراره رقم 991-16 وتاريخ 15-03-2016، حيث تعرض تقارير التفتيش التي تهم المخالفات المنسوبة للقضاة على المجلس بكامل أعضائه العشرين ويناقشها ليقرر بعدها، إما مواصلة المسار التأديبي بتعيين مقرر لإكمال البحث والتحقيق أو يقوم بحفظ القضية موضوع المخالفة إذا ما بدا له أن الفعل لا تتوفر فيه عناصر للمخالفة التأديبية، وبعد أن يقوم القاضي المقرر بالاستماع للقاضي المتابع والتحقيق في موضوع المتابعة يضع تقريره أمام المجلس الذي يناقشه بكامل أعضائه ليتخذ أيضا إما قرار حفظ الملف أو مواصلة المسطرة التأديبية بإحالة القاضي المعني إلى جلسة المحاكمة التأديبية أمام نفس المجلس بكامل أعضائه، وبعد هذه الجلسة يتم اتخاذ قرار إما بالبراءة أو المؤاخذة أو اجراء بحث تكميلي (المواد من 85 إلى 102 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في صيغته قبل التعديل الجديد بواسطة القانون التنظيمي رقم 22-13 المصادق عليه من المحكمة الدستورية بتاريخ 07-03-2023). وقد جاءت هذه المسطرة بعدة حقوق وضمانات جديدة أو تم التفصيل في حقوق أخرى كانت مقتضبة، وهكذا تم النص على حق تجريح القاضي المقرر أمام المجلس وترتيب الآثار عن ذلك وتفصيل بيانات الاستدعاء وتحديد تاريخ الاعلام بشكل سابق للمثول سواء أمام المجلس أو أمام المقرر والاطلاع على كافة الوثائق بمدة كافية سواء أمام المقرر أو المجلس وأخذ نسخة من محضر الاستماع وحق التزام الصمت وحق الإشعار بأي قرار يتخذه المجلس وتقرير حق المؤازرة – رغم حصره في قاض أو محام واحد وفق تفسير المجلس للمادة 94 من القانون التنظيمي للمجلس في قرارات سابقة له خلال ولايته الأولى – وأخد نسخة من كل وثائق الملف وتوجيه القاضي المتابع ودفاعه الأسئلة للقاضي المقرر بواسطة أو بإذن من الرئيس المنتدب والتنصيص على حق البت في أجل معقول (04 أشهر وحاليا 05 اشهر تمدد لمرة واحدة وبقرار معلل ) والنص على تقادم المخالفة التأديبية وتعليل مقررات المجلس وأخيرا حق الطعن في المقرر التأديبي أمام جهة قضائية عليا. ثانيا : مستجدات المسطرة التأديبية للقضاة وسياقاتها : بعد اشتغال المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمسطرة التي جاء بها القانون التنظيمي للمجلس الذي دخل حيز التنفيذ ابتداء من 06-04-2017 إلى غاية دخول المقتضيات الجديدة حيز التنفيذ بتاريخ 23-03-2023 أي تاريخ نشرها بالجريدة الرسمية تكون قد مرت حوالي ست سنوات، وهي مدة كافية لتقييم هذه المسطرة ومدى نجاعتها في عمل المجلس الذي كان يشتغل عمليا عن طريق تلقي الرئيس المنتدب للشكايات والمخالفات المتعلقة بالقضاة ويحيلها بدوره إلى التفتيش الذي يقوم بالتحري والأبحاث وإنجاز تقرير فيها، ثم تحال إلى لجنة داخل المجلس تسمى لجنة الأخلاقيات ودعم استقلالية القضاة التي تتدارس التقرير وتقترح فيه إما الحفظ أو تعيين قاض مقرر وتعرض اقتراحها أمام أعضاء المجلس الذين يؤيدون الاقتراح أو يعترضون عليه وفي حالة تعيين مقرر يقوم هذا الأخير بالتحقيق في موضوع المخالفة المنسوبة للقاضي و ينجز تقريرا يعرض على اللجنة قبله والمجلس بنفس الكيفية ليتقرر إما الحفظ وإما الإحالة على المجلس بكامل أعضائه كهيئة تأديبية . وبعد التعديل الطارئ على المادة 88 من القانون التنظيمي للمجلس أصبحت المسطرة التأديبية تتم كما يلي : يحيل الرئيس المنتدب تقارير التفتيش إلى لجنة جديدة دائمة أحدثها التعديل الأخير وهي "لجنة التأديب "مؤلفة من ثلاثة إلى خمسة أعضاء من أعضاء المجلس، حيث تتدارس اللجنة وتقترح إما حفظ الملف وإما تعيين مقرر. يبت الرئيس المنتدب في اقتراح اللجنة إما بالتأييد أو بالمخالفة، وإذا أيد أو خالف وكان القرار هو الحفظ فإنه يشعر به المجلس بمقتضى مقرر معلل ويمكن لهذا الأخير إلغاء قرار الرئيس المنتدب بالحفظ وتعيين قاض مقرر لمواصلة المسطرة التأديبية، بمعنى أن المجلس هنا يتخذ وضعية الرقابة على قرارات الرئيس المنتدب ودرجة ثانية للبت في حالة الحفظ. إذا تم تعيين قاض مقرر (للبحث والتحقيق في موضوع المخالفة)، فإن الظاهر من نص التعديل، أن المجلس لا يشعر به، بل بقوم الرئيس المنتدب بباقي الإجراءات الإدارية من إشعار القاضي المعني بالمخالفة والمقرر الذي يقوم بعمله إلى حين وضعه لتقريره الذي يتم عرضه على لجنة التأديب التي تقوم بعملها ويبت الرئيس المنتدب في مقترحها بنفس الكيفية الأولى وفي حالة الحفظ يتم إشعار المجلس الذي يمكنه إلغاؤه أيضا والإحالة مباشرة على الجلسة التأديبية للمجلس. وتجدر الإشارة هنا – وحسب الظاهر من القراءة الأولية للتعديل الأخير – إلى أن أعضاء المجلس يمكن ألا يطلعوا ولا يعلموا بأي قضية تأديبية إلا حين عرضها عليهم في إطار جلسة التأديب –ما عدا لجنة التأديب التي يصل عددها في عادة تشكيل اللجان من 03 إلى 07 أعضاء كحد أقصى– ، بحيث لا يمكن للمجلس القيام بحفظ الملف كما كان في السابق في أي مرحلة من مراحل المسطرة التأديبية، وطبعا المجلس هنا كمحكمة تأديبية وكضمانة للقاضي تبقى له كامل الصلاحية عند بته في الملف التأديبي ليمنح البراءة للقاضي (ة) إذا كون قناعته في ذلك بعد الاطلاع على الملف والنقاش والمداولة، والبراءة ، كما هو معلوم، أقوى حجية من الحفظ ، كما للمجلس إمكانية زيادة إجراء بحث تكميلي في نفس القضية . ومما جاء في تقديم وزير العدل لأسباب تعديل مسطرة التأديب في مشروع القانون رقم 13-22 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية المصادق عليه ما يلي : " تتميز مسطرة التأديب المنصوص عليها في المواد 85 وما يليها من القانون التنظيمي للمجلس بطولها وتعقدها، مما يؤخر بت المجلس في العديد من القضايا التي قد لا تحتمل التأخير لأسباب مختلفة ...". وإذا كان ما جاء في تقديم القانون أعلاه سليما من الناحية الواقعية والعملية، فإنه من الناحية المبدئية يبقى أن المسطرة التأديبية السابق بيانها لم تكن ترتكز على مبدأ الفصل بين جهة الاتهام وجهة المحاكمة التأديبية، بحيث كان المجلس هو نفسه جهة متابعة وجهة حكم، بمعنى أن الأعضاء العشرين للمجلس ربما يكونون قد كونوا قناعتهم في مخالفة معينة منسوبة لقاض (ة) منذ أول تقرير تفتيش وتبادلوا الرأي فيما بينهم فيه، وبالتالي نعتبر أن هذا التعديل – كفكرة ومبدأ تحتاج لتفصيل كبير – يحقق بنسبة مهمة مبدأ الفصل بين جهة الاتهام وجهة المحاكمة التأديبية وهو المبدأ الذي يعد من شروط المحاكمة العادلة تأديبية كانت أم جنائية. (*) دكتور في الحقوق – الرئيس السابق لنادي قضاة المغرب