قد لا يجد المرء الوقت الكافي لأخذ حصة من الراحة والبحث عن مساحات فارغة للاستجمام، وقد لا يجد حتى الوقت الكافي للحديث عن تلك الهموم المتعاظمة التي تحول دون أن يفارق الواحد منا كدحه الملازم لاستمراره في الحياة؛ لكن في عز تلك الغمرات، قد يجد متسعا للتأمل في هموم الواقع المعاش، ليصبح الواقع في ذاته شاشة عرض تؤرخ للأحداث وتعيد ترتيب المعطيات وتسهم في صياغة معالم المستقبل. لقد تكدست في الواقع السياسي مجموعة من الأحداث التي لا تخرج عن فكرة "تبخيس السياسة"، وهو مسلسل مازال يعرض على المغاربة ضمن حلقات متعددة ومتنوعة، بعضها يأخذ شكلا دراميا وآخر كوميديا وأحيانا عاطفيا.. وهكذا كما هو حال المسلسلات التي تقتنى بالكيلوغرامات مثل خردة تسهم في تشكيل الوعي الجمعي للأمة ! وآخر الموضات التي تفتقت عنها عبقرية "المبخسين"، ذاك التهافت غير المسبوق من "أشباه السياسيين" لتنفيذ بعض الأدوار ضمن مسلسل جديد، كحال الكثير من المتطفلين على الفن والأدب والإعلام، حين يحاولون تقمص أدوار تتجاوز قدراتهم وكفاءاتهم، فيأتي اليوم الذي ينفضحون فيه على رؤوس الأشهاد ! لقد اتخذ الفيلم الجديد شعار: "إعطاب الإصلاح" كعنوان لهذه المرحلة التي لا تتجزأ عن مسلسل "التحكم"، ويعتبر هذا العمل ثمرة جهود مجموعة من المخرجين المنتمين لمدرسة "القوة الثالثة"، وتتقاسم دور البطولة في شقه السياسي بعض أحزاب المعارضة، طبعا مع ضيوف الشرف الذين حلوا على رأس أجهزتها التنفيذية صدفة هكذا بالجملة دون تقسيط ! وجدير بمن يروج للسينما الواقعية أن يهتم بهكذا مواضيع، دون حرف الأنظار إلى الهوامش من "الطابوهات" المفتعلة، كما يفعل كثير من الساسة اليوم، وكلما جدّ النقاش والتفت الناس إلى صلب المواضيع التي تتطرق للحرية والعدالة والكرامة ! وكما هو حال الرداءة في إنتاجاتنا التلفزيونية، يبدو أن ركاكة السيناريو وتخبط الإخراج قد وصلت عدواه لمن يسمون "فاعلين" في المشهد السياسي، ويكفي أن نتطرق في هذا المقال لبعض اللقطات من شاشة المعارضة، لنكتشف الكثير من التناقضات في الخطاب، ولنستشف من خلالها حجم الفوارق في الممارسة السياسية التي فوتت على البلاد أزيد من نصف قرن من التقدم بسبب الإجهاض المتكرر لمحاولات الإصلاح، واستنفاذ بعض الدوائر لكافة الوسائل المتاحة قصد إفشال أي مشروع يناهض المفسدين وينصب العداوة للفساد ! اللقطة الأولى: تعزف فيها المعارضة -دائما- على مسامعنا سمفونية الافتتاح المشروخة، وهي تنشد بوجود دستور جديد يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة لكنه لا يستعملها، وبالتالي يهدر معها التنزيل الديموقراطي للدستور. لكن، سرعان ما ينقلب هذا النشيد إلى لطم وندب ونياح وصياح حين يستعمل رئيس الحكومة صلاحياته الدستورية، بل يصل الأمر إلى حد وصف رجل دولة بالديكتاتورية والجنون ! فلا تدري هل تدافع المعارضة عن صلاحيات رئيس الحكومة فعلا أم تريد تعطيلها، أم تريد تفعيل ما يحلو لها وتعطيل ما تشاء وقت ما تشاء؟! اللقطة الثانية: سيرا على عادة استثمار مآسي الآخرين والمتاجرة الإعلامية الرخيصة بها، دأبت بعض أحزاب المعارضة على دغدغة مشاعر المعطلين علهم يلهبون ساحات الرباط بعدما عجزت "المسيرات المعلومة" عن إلهابها بأصوات البارود المبلل ! وفي هذا السياق، طالبت الحكومةَ بتطبيق الحكم الابتدائي القاضي بتوظيف المعطلين، وتلك "المعارضات" تعلم جيدا أن التقاضي لم يصل إلى منتهاه ليحوز قوة الشيء المقضي به، لكن مادام الأمر يتعلق بمسلسل "الإعطاب" فلابأس بشيء من التشويش في قالب الإحراج الموهوم. في المقابل، استعملت بعض الأحزاب نفس المبرر الذي تهربت منه، في تأجيج إدانة رئيس الحكومة بسبب كلمات في البرلمان حول قاض أدانته المحكمة ابتدائيا بالارتشاء، بل ودفع بعضهم ب"كمشة" من المحامين إلى رفع دعوى قضائية دولية ضد رئيس الحكومة لأنه لم ينتظر صدور الحكم النهائي ! فلماذا الدعوة إلى انتظار الحكم النهائي هنا فقط وليس هناك أيضا؟! اللقطة الثالثة: وهي لقطة تستحق عن جدارة وسام "رمتني بدائها وانسلت" من فئة نجمتين ! فبعض الأحزاب التي ألفت المناصب ولم تتعود بعد على الفطام من التسيير الحكومي، والقطع مع التحكم في دواليب الإدارة وملئها بالأتباع عوائل وقبائل ومريدين ! لا تجد غضاضة في التعبير عن منطقها المبدئي في مفهوم "السعي الحثيث وراء المناصب"؛ إذ كلما تم الإعلان عن مناصب سامية إلا أتبعتها ب"أخونة الدولة" ورغبة "الحزب الأغلبي" (وكأنه أغلبية لوحده) في الاستحواذ على دواليب الدولة وتوريثها لأتباعه ! ويا ريت الأمر وقف عند هذا الحد، لقد بلغت هذه "الفوبيا" بأصحابها درجة تكرار هذه النوتة حتى مع المناصب الزهيدة من السلالم الدنيا، وهذا يفسر أن تلك الأحزاب لم تترك "لا حب ولا تبن" أيام حصادها إلا وكان لها حق منه بغير حق ! فهل هذا الخطاب ينم عن مكنون العقلية الحزبية التي تنطق به، أم ينم عن مضمون تصور تلك الأحزاب للحكم وما يتيحه من فوائد؟! اللقطة الرابعة: تحيلنا على منتوج نظري يسمى "المجتمع المدني"؛ هذا "المجتمع" الذي ظل إلى عهد قريب أحد الأوراق الرابحة في تبخيس الفعل السياسي وشيطنة الداعين للتصالح مع السياسة، وكأن الأحزاب أضحت "مجتمعا عسكريا"! والغاية لم تكن سوى الإجهاز على الأحزاب الوطنية حتى تخلو الساحة لتغول الوافد الجديد؛ إذ ظلت بعض الأفواه التي حُمِّلت وزر "التحليل السياسي" تقدم الجمعيات على أنها بديل حقيقي للأحزاب (وليسا مكملين لبعضهما)، قبل أن تعاد برمجتها على تردد لا يرسل من الموجات سوى أشواك التأقلم مع الربيع الديموقراطي. بعض تلك الأحزاب بمنظريها المتخفين بلبوس "المحللين"، عادت اليوم، وبعد تخصيص سلطة حكومية مكلفة بالمجتمع المدني، لتعطي الدروس حول "الوصاية الحكومية" على المجتمع المدني وتدخُّلها في شؤون الجمعيات والجامعات والوداديات والفيدراليات... وتنتقد إجراءات الدولة في ترشيد الاستفادة من الدعم العمومي وعقلنة الخدمة العمومية؛ لكن ما فتئت تلك الجمعيات، في لحظة سهو مدفوع برغبة عارمة في "الإعطاب" بنكهة الإحراج أن تطلب من الحكومة ضرب استقلالية الجامعة المغربية لكرة القدم وخرق مقتضيات قانونية ينص عليها العقد الذي كان مع مدرب الفريق الوطني، مستغلة بذلك الأجواء المشحونة بعد حصاد الخسائر، لكن متناسية -في نفس الوقت- أن الخسارة ستكون حليف هذه المعارضات هي الأخرى حين تكيل بمكيالين. فإما أن المعارضة لا تؤمن فعلا باستقلالية "المجتمع المدني" في سياق التوظيف التكتيكي! وإما أنها لا تؤمن فعلا باستقلالية المجتمع المدني في سياق العقلية الإقصائية! فلماذا تناقض بعض الأحزاب نفسها حين تقيم الدنيا في الموضوع؟! اللقطة الخامسة: وهي الأخرى تجد لها مرتعا في الاستقلالية؛ حين تتناقض المعارضة في دعوتها لاستقلالية الإعلام، وفي الوقت نفسه ترفع عقيرة المزايدة السياسية بدعوة "الخلفي" للتدخل في القطاع غير ما مرة، وأحيانا عبر أسئلة شفوية بالبرلمان يشهد عليها العام والخاص. أو حين تخطب عن استقلالية القضاء، لكنها لا تنفك تزايد على الواقع السياسي وخارج مقتضيات الدستور بأن "الرميد" يملك القضاء وباستطاعته محاسبة الجناة، لكن من دون الجناة المندسين داخل الأحزاب! ماذا تريد المعارضة بالضبط؟! نحن نعلم والله أعلم ! اللقطة السادسة: تبرز حين تطالب المعارضة بالتشاركية من موقع التضخم؛ فتطلب أكثر مما تستحق وأزيد بكثير مما يقره القانون؛ فرغم توالي صفعات المحكمة الدستورية، إلا أن هذا التضخم في تصور التشاركية مازال قائما؛ إذ ترى المعارضة أن التشاركية تقتضي فرض ما تشاء على حكومة مسؤولة هي من ستعطي الحساب في الأخير، فهل ستتشارك معها المعارضة في تنزيل ربط المسؤولية بالمحاسبة حينها، أم تريد توريط الحكومة في بعض القرارات وتنسحب في هدوء؟! وحتى حين يتم تفعيل تلك التشاركية، تبدأ المماطلة، ويبرز خطاب جديد فكرته الأساسية "بطء الأداء الحكومي" ! فإما أن نقبل بأن التشاركية تتطلب الوقت وبالتالي يكون بطء الأداء، خاصة مع بعض التثاقل التنظيري الذي بلغته بعض الأحزاب، وإما أن نقبل أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها وتنفذ مخططاتها في الآجال التي التزمت بها ! لكن هذا النقاش كله، قد لا يغري الكثير ممن وصلوا لقيادة الأحزاب وفشلوا حتى في التشاركية الداخلية، فنحن نرى اليوم مستوى الإقصاء داخل أحزاب بعينها، فكيف لها أن تعطي الدروس في التشاركية؟! على المعارضة أن تؤمن أولا بالتشاركية داخل مؤسساتها الحزبية الصغيرة قبل أن تطالب بها داخل مؤسسات الدولة الكبيرة !! فمن لا يؤمن بالشيء، لا يستطيع أن يملك النفس الطويل للمطالبة به وتحقيقه ! اللقطة السابعة: وهي من اللقطات الجديدة التي مازال بعضها غير خاضع للمونطاج بشكل جيد؛ إذ تصاعدت في الآونة الأخيرة خطابات منسقة حول "الاستيراد"، علما أن "التصدير" هو ما كان يشغل الرأي العام، خاصة في شق العملة الصعبة المهربة، والفيلات المقتناة خارج الوطن... الخ. لكن ما إن فتح ملف التصدير من جهة حتى افتعلت قضية الاستيراد من جهة أخرى ! يتبجح البعض -هذه الأيام- بأن تجربة الإسلاميين في هذه البلاد ما هي إلا نسخة مشرقية مستوردة عن الإخوان المسلمين، وأن "إخوان بنكيران"[1] ينفذون مخططا دوليا للسيطرة على الشعوب، تلك الشعوب التي أوصلتهم إلى صناديق الاقتراع حين مارست إرادتها الحرة ! وهاهنا أمران لا يمكن تجاوزهما: يتعلق الأول بعقلية المغلوبين ممن ألفوا جلد الأنا العليا؛ إذ يجهلون أن تجربة هؤلاء الإسلاميين في المغرب تعتبر نموذجية وتتطلع الكثير من التنظيمات للاقتداء بها، وهو ما يعطي إشعاعا دوليا للمغرب من هذه الناحية. أما الأمر الثاني، فهو يتعلق بعقلية تنفيذ الأوامر التي تبطن المادة الرمادية بجماجم هؤلاء العباقرة ! إذ كل من يسري عليه أمر ما، يعتقد أن كل من حوله مدان بنفس التهمة ! لكن بعيدا عن هذا الأمر كله، لابد في سياق "الاستيراد" أن ننقر قليلا على ماضي العار الذي أصبحت تسْوَدُّ له بعض الوجوه الكظيمة؛ لنذكر -ولو قليلا- بمن حاولوا فعليا استيراد نموذج "بنعلي" (سراب تنمية بدون حرية) ومن يحاولون اليوم استيراد نموذج "السيسي" (لا تنمية ولا حرية) وقولبته في نموذج مغربي قد ينضاف للمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية ! دون أن ننسى أولئك الذي جابوا بلاد المشرق لتأسيس منصة إطلاق الثورة المضادة تحت مسمى الجبهة الحداثية ! فهل أحزاب المعارضة مع الاستيراد أم ضده؟! أم أنها تعتقد أن الناس أموات تصدّر متى تشاء وتستورد متى تشاء؟!! فقليلا من الحياء ! اللقطة الثامنة: مشبعة بالكساد السياسي والبوار الإيديولوجي، كحال الكثير من الإنتاجات الفكاهية الموسمية التي تحاول رسم البسمة "بزز" على المشاهدين، ولو بإطلاق "ضحكات مصطنعة" ! إذ كلما سُقط في أيدي بعض المعارضات، إلا وتجدها تفتعل قضايا هامشية مع هالة من "الظواهر الصوتية" علها تتجاوز حالة الركود أمام انتصاب الحكومة وتفوق اجتهادها القانوني والخطابي والتنفيذي أغلب الأحيان. فبعد توالي صفعات المحكمة الدستورية، كانت المعارضة قد جربت وسائل عديدة لتحويل جلسة المساءلة الشهرية إلى حلبة "إذلال" لرئيس الحكومة خاصة وأنها تحظى بنسب مشاهدة مرتفعة؛ وحين لم تنجح في مساعيها، عمدت إلى مقاطعتها بمبررات واهية رغم أنها مقتضى دستوري، فمن يسعى لتعطيل الدستور إذن؟! وأين هي الثقافة الديموقراطية أصلا؟! وحين لم تفلح بعض الواجهات الحزبية في حسم المعارك السياسية، لم تيأس في العودة إلى جذور الإشكالات القديمة التي كانت تستفز التيار الإسلامي وتحشده في المسيرات المليونية، متناسية أن الوضع غير الوضع! وجالبة على نفسها ويلات تاريخها في التسيير، حين كانت تستفرد بالقرارات المصيرية وتحاول فرض إيديولوجيتها الضيقة على الأمة في أمور تراها قطعية وغير قابلة للمراجعة. فأين كانت التشاركية حينها؟ أم كان هناك دستور آخر إبانها؟ أم أن الدساتير هي التي تؤسس للثقافة الديموقراطية وليس العكس؟! فالأمر منطقي حين يطغى التناقض أن نرى العربة تسبق الحصان !! إننا نعلم -يقينا- أن بعض المساهمين في هذا المسلسل المعطوب بعيدون -كل بعد- عن تنزيل أي استحقاق ديموقراطي، حاصة ممن يعيشون أيتاما بعد موت "الديموقراطية الداخلية" في أحزابهم، وبشهادة الشهود من أهل الدار وليس من الرأي العام ! إذ كلما استهلك خطاب التشاركية والبطء في الأداء، ورأوا من الإنجازات ما لا يرغبون من حكومة "نصف ملتحية"، إلا واستجلبت الأفكار المصبرة والجاهزة، وفتحت على خطابات جديدة من قبيل أن ذاك الإنجاز التزمت به الحكومات السابقة، أو أن هذا الإنجاز هو تحصيل حاصل "الدستور الجديد".. المهم، في نظر المعارضات، أن الحكومة لا تنجز شيئا، أو أن الإنجازات ليست من اختياراتها والتزاماتها، أو أنها لا تملك حتى إرادة الإنجاز!! ألا قبح الله السفه ! إن حلقات مسلسل "إعطاب الإصلاح" ولقطاته الرديئة ما تزال متواصلة، وقد لا تتوقف -قريبا- لتفسح المجال أمام صعود الجينيريك وإبراز بعض المشاهد الطريفة من الكواليس؛ لأن هناك كثير ممن يخشون بروز أسمائهم ضمن القائمة المعتمة بالسواد، أو انفضاح إسهامهم في تحريك المشهد وإخراجه! وعلينا أن نتوقع دراما حقيقية مفعمة بالحركة فيما بقي من أجزاء؛ لأنه كلما اقترب الإصلاح من بؤر الإفساد إلا وتزداد ضراوة المشهد، لكن في الحقيقة هناك من يؤدون أدوارهم الواقعية وهناك فقط من يمثلون ! وبعض الوجوه التي تتزعم ركاكة المشهد قد لا تصل إلى درجة تقمص شخصية "تلك التي تعلمون" وهي تحاضر في الشرف، أو إتقان دور "الجرذ" (في قصيد "أحمد مطر") وهو يخطب عن النظافة، ويرعد ويزبد متوعدا الأوساخ بالعقاب.. ويتأثث المشهد من حوله بتصفيق وتشجيعات الذباب !! ================ [1] بدأت بعض وسائل الإعلام المغربية فعليا في استعمال هذا المصطلح (إخوان بنكيران) بالتزامن مع تبنيها طرح الانقلابيين في مصر؛ وكأنه نوع من "تقطير الشمع" على إسلاميي المغرب بالشماتة بالإخوان المسلمين من جهة، وخلق خلط مقصود من ناحية أخرى بين الإخوان المسلمين والعدالة والتنمية، كإسهام إعلامي يكمل الدور السياسي !