مشكلة الصحافة المغربية تكمن في كون صحافييها ، وبمجرد أن يحدث خلاف في الرأي ، يخرجون إلى العار ، وينبشون في الحياة الشخصية لبعضهم البعض ، مقدمين بذلك خدمة جليلة للدولة التي لا شك أنها تسعد كثيرا كلما كثرت الخلافات بين الصحافيين ، وهذا بالتحديد ما فعلته جريدة "رسالة الأمة" مع مدير مجلة "نيشان" . "" ويعود أصل الحكاية إلى البهدلة البوليسية التي تعرض لها نور الدين مفتاح ، مدير نشر أسبوعية "الأيام" ، رفقة رئيسة تحرير الأسبوعية مرية مكريم ، بعد تقديم طلب إلى الديوان الملكي قصد الحصول على إذن بنشر صورة خاصة لأم الملك محمد السادس . لتنطلق البهدلة البوليسية عبر إيفاد عشرين بوليسيا إلى مقر المجلة ، ونصْب "كمين" لنور الدين مفتاح ، الذي تم التعرف عليه بتقنية جي پي إس ، بعدما لم يجدوه في مقر الأسبوعية . ومن باب الدعم والمساندة ، كان من الطبيعي أن يقف أحمد بنشمسي إلى جانب زميليه في أسبوعية "الأيام" . ليس من باب الزمالة المهنية فحسب ، وإنما دفاعا عن حرية الصحافة التي يبدو أنها ، وعوض أن تتسع ، يزداد ضيق مساحتها يوما عن آخر . بنشمسي ، كتب في افتتاحية عدد هذا الأسبوع من مجلة "نيشان" ، وهو يعلق على ما تعرضت له "الأيام" : "أصل هذا الضجيج ( يقصد الضجيج الذي سببته صورة أم الملك ) هو ظهير شريف صدر عام 1956 ، يُمنع بموجبه نشر صور صاحب الجلالة وسمو الأمراء والأميرات بدون أخذ إذن مسبق من الديوان الملكي . وا نكتة هادي !" يقول بنشمسي ، ويضيف : "المئات ديال الصور الملكية والأميرية تُُنشر كل نهار فالصحافة المغربية ، سواء كانت رسمية أو خاصة ، بدون إذن حتى شي واحد . سبحان الله هاد الظهير كايجبدوه غير ملي كاترشق ليهم ! وهاد الظهير قابل للنقاش ، هي جوج !! مع كل احترامي للعائلة الملكية ، من أم الملك حتى آخر أعضائها وأقلهم أهمية في التراتبية الرسمية ، على هؤلاء الناس أن يعوا بأن نسق معيشتهم ، فلوس الشعب هي اللي مخلصاه . يعني فلوسي وفلوسكم أيها القراء الأوفياء . على هاد القبال ، أضعف الايمان أننا نتعرفو على وجوه هؤلاء المحظوظين" . انتهى كلام بنشمسي ، وأنا شخصيا أتفق معه بالطول والعرض في هذه النقطة . لكن "رسالة الأمة" لم يعجبها الأمر ، وربما ما لم يعجبها أكثر هو الجرأة التي تحدث بها بنشمسي ، لذلك عادت إلى الوراء قليلا ، لتفتش في أرشيف حياته الخاصة ، وكتبت في عددها 8098 ما يلي : "عندما توفيت والدة بنشمسي في الحادثة الأليمة والمؤسفة بكل ما أحاط بها من أسباب وتفاصيل ، بذل ولد بنشمسي قصارى جهده للتدخل لدى هيئات التحرير من أجل الاستنكاف عن نشر صور الضحية لأسباب يعرفها جيدا ، وكان له ذلك . أفليس من حق الأمراء والأميرات أن يختاروا مكان وزمن نشر صورهم ؟ أليس من حقهم الرفض المطلق لنشرها حتى وحماية حياتهم الخاصة ؟" هذه الفقرة علق عليها رشيد نيني في زاوية "انت بْرگم وانا نفهم" في العدد 755 من جريدة "المساء" قائلا : "بعضهم يكتشف حكاية احترام الحياة الشخصية فقط عندما يتعلق الأمر بأمه ، أما أمهات الآخرين فلا حرج في عدم احترام حياتهن الشخصية" . وإذا كنا نتفق جميعا على أن الحياة الشخصية لأي مواطن مهما كانت مرتبته الاجتماعية مقدسة ، إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نتساءل إن كانت حياة الملوك والرؤساء والوزراء وكل من يتحمل مسؤولية ما في الدولة مقدسة ؟ خصوصا إذا كانت هذه الصور عادية . ففي الدول الديمقراطية تنشر الصحف والمجلات أخبار الرؤساء والملوك ، وتنشر معهم صورهم الخاصة ، سواء كانت هذه الأخبار والصور جيدة أم سيئة ، بل وترسمهم في رسوم كاريكاتورية ساخرة ، كما حدث مؤخرا مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، الذي ذهبت الوقاحة بأحد رسامي الكاريكاتور إلى تشخيصه على هيئة قرد "الشامپانزي" . ومع ذلك لم يرفع عليه أوباما أي دعوى قضائية ، رغم أن أغلب الأمريكيين استنكروا مضمون الرسم الكاريكاتوري الذي تجاوز حدود الحرية بكثير . وفي اسبانيا سبق لإحدى المجلات أن نشرت قبل عام تقريبا ، على صدر صفحتها الأولى رسما كاريكاتوريا ساخرا لولي العهد الإسپاني الأمير فيليپي وهو يضاجع زوجته على فراش النوم بمناسبة تقديم الحكومة الإسبانية لمكافآت لكل من يقدم على إنجاب طفل ، ومع ذلك لم يذهب رسام الكاريكاتور إلى السجن ، ولم تتجاوز الغرامة التي التي حوكمت بها المجلة بعد رفع النيابة العامة دعوى قضائية ضدها أربعة آلاف أورو . يحدث هذا في البلدان الديمقراطية الحقيقية التي تعتبر فيها حياة المسؤولين العموميين ملكا للشعب أجمع ، أما في الدول التي لا توجد فيها الديمقراطية سوى على ألسنة المسؤولين ، فممنوع أن ترسم رئيس الدولة بشكل كاريكاتوري ، حتى وإن كان الرسم عاديا جدا ، لأنهم يعتبرون أنفسهم ربما ، في مرتبة الأنبياء والرسل الذين لا يجوز تصويرهم ، هذا إذا لم يكونوا يحسبون أنفسهم آلهة . واليوم نكتشف أن حتى الصور العادية لأفراد الأسرة الحاكمة أصبحت بدورها ممنوعة من النشر ، بل ويصل الأمر إلى حد اقتياد كل من تجرأ على مجرد مطالبة بنشرها إلى مفوضية الأمن ، من أجل التحقيق لمدة ساعات طويلة ، كما حدث مع مفتاح ومكريم . وبما أن الظهير الذي صدر عام 1956 ، يمنع فقط "نشر صور الملك والأمراء بدون أخذ إذن مسبق من الديوان الملكي"، ولا يتحدث عن ضرورة التحقيق مع من تقدم بطلب لنشرها ، فلماذا تم إنزال فيلق كامل من البوليس في مقر أسبوعية "الأيام" ؟ حتى أن مدير الشرطة القضائية بنفسه هو من حقق مع مدير الأسبوعية لست ِّ ساعات كاملة ، بحال يلا كان ناوي يدير شي انقلاب . ألم يكن ممكنا أن يكتفي الديوان الملكي برفض التصريح بنشر الصورة وينتهي الأمر عند هذا الحد ؟ أم أن هناك جهات في جهاز المخابرات وفي المحيط الملكي لا يهدأ لها بال إلا عندما ترى صورة المغرب تتشوه أمام أنظار العالم أجمع ؟ في السنة القادمة ، وفي السنوات التي ستليها ، انتظروا مزيدا من التقارير السوداء التي "ستتحفنا" بها المنظمات الحقوقية العالمية ، والتي ستجعل المغرب يتقهقر إلى مراتب أكثر خجلا من تلك التي يحتلها اليوم في سلّم البلدان التي تضطهد مواطنيها وتضع أقفالا على أفواههم وأقلامهم . ديك الساعة لن تنفع ثرثرة وزير الاتصال ، ولن ينفع "الماكياج" الذي يتم به تزويق صورة بلدنا في نشرات الأخبار على شاشة التلڤزيون الرسمي ، لأن الواقع يبين بشكل واضح حتى للذين لا يبصرون أن الوضع الصحي لحرية التعبير والرأي والصحافة في المغرب ليس على ما يرام ، ولأن الذين يشوهون صورة بلدنا ليسوا هم كتاب تقارير المنظمات الحقوقية العالمية ، أو الصحافيون المغاربة الذين ينتقدون الوضع القائم ، وإنما هم أولائك الذين يحركون خيوط مثل هذه المهازل ويعدّون خططها الجهنمية في الخفاء . المؤسف أن الصحافيين أحيانا ، بعضهم وليس الجميع لحسن الحظ ، يساعدون الدولة في تشديد الخناق على حرية التعبير وهم لا يشعرون . مؤسف للغاية . [email protected]