خصص الكاتب والصحافي محمد البريني الحلقة الثامنة من سلسلته "حكام الجزائر: 60عاما من الجحود والغدر والمؤامرات والاعتداءات ضد المغرب" للفترة التي اختار فيها حكام الجزائر اللجوء إلى حرب جديدة ضد المملكة من جميع الواجهات، العسكرية منها والدبلوماسية والإعلامية والإرهابية، وحتى الحرب ضد الإنسانية. وأوضح البريني، في الحلقة التي تحمل عنوان "حرب متعددة الواجهات"، كيف جمعت السلطات الجزائرية حوالي أربعين ألف مغربي يعملون في الجزائر، وجردتهم من ممتلكاتهم ورمتهم على الحدود المغربية؛ كما تطرق لمرحلة انتشار فرق عسكرية جزائرية على الحدود المغربية، وقيام كومندو جزائري قادم من تندوف بالهجوم على عين بن تلي المغربية، واختراق الجيش الجزائري حدود بلاده للتوغل داخل التراب المغربي... وبعدما ذكّر محمد البريني بمعركة أمغالا التي نجحت فيها القوات المسلحة الملكية في محاصرة القوات المعتدية، وأسرت أكثر من 120 من الضباط والجنود، من بينهم قائد الأركان الحالي سعيد شنقريحة، سلط الكاتب والصحافي الضوء على مرحلة خلق كيانيْن من طرف حكام الجزائر، الأول هو "البوليساريو" الذي أطلقوا عليه اسم حركة تحرير، والثاني هو ما وصفوه بالدولة وأطلقوا عليه اسم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية". الحلقة الثامنة: حرب متعددة الواجهات انطلقت حرب جديدة على بلادنا من جميع الواجهات: حرب عسكرية، ودبلوماسية، وإعلامية، وإرهابية، وحرب ضد الإنسانية أيضا؛ هذه بعض محطاتها. خلال شهري دجنبر 1975، أي مباشرة بعد اتفاق مدريد الذي أنهى الاستعمار في الصحراء، ويناير 1976، بدأ النظام الجزائري تنفيذ عقيدته الجديدة ضد المغرب؛ كانت انطلاقتها قوله: «الضربة الأولى ستسقط من معنويات هذا الخصم القوي (أي المغرب)، وسترهقه اقتصاديا، وتهزمه سياسيا. يوجد في الجزائر حوالي أربعين ألف مغربي (40000) يعملون في شتى الميادين. سنجمع المغاربة العاملين والقاطنين في الجزائر، وسندفع بهم إلى وراء الحدود مجردين حفاة عراة». وكذلك كان. طرد حكام الجزائر أزيد من40000 (أربعين ألفا) مغربية ومغربي بالعنف والتنكيل، ورموا بهم نحو الحدود المغربية، في مشهد مأساوي.. شردوا عائلات.. فرقوا بين الزوج وزوجته، وبين الأب والأم وأولادهما؛ جردوهم من أملاكهم ومساكنهم، وحولوهم بين عشية وضحاها إلى فقراء معوزين، محرومين من كل شيء يضمن لهم العيش الكريم. لم يرتكب هؤلاء أي ذنب في حق الجزائر، اختاروها موطنا لهم منذ عشرات السنين، لأنهم كانوا يحبونها، تزاوجوا مع أهلها، وولد لهم أبناء من أبوين، أحدهما مغربي والثاني جزائري. جريمة كهذه لا يرتكبها سوى نظام لا يولي الإنسان أي اعتبار ولا يعيره أي وزن، ولا يتورع في خرق حقوق الإنسان والدوس على قيمها بدون حياء ولا خجل.. جريمة تستحق أن تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية. مع ذلك، ضبط المغرب أعصابه، تعفف، استنكف عن القيام بأي فعل مماثل؛ بل ظل يترفع ويتنزه عن ارتكاب ردود فعل انتقامية، وعن اقتراف أي أذى في حق جاره الشرقي، واستمر يمد يده للحوار والتصالح، لكن بدون جدوى. في أوائل يناير 1976، تمت زيادة 25% في ميزانية الجزائر العسكرية؛ هذا دون الأخذ بعين الاعتبار الاعتمادات الملحقة والمقنّعة، ثم استدعي الاحتياطيون للالتحاق بالجيش، وتم نشر فرق عسكرية تضم 50000 (خمسين ألفا) جندي على الحدود المغربية. كان واضحا أن النظام في الجزائر يحضر للاعتداء على المغرب، مع أن المغرب لم تصدر عنه أي نية عدوانية، ولم يقم بأي حركة، ولو بسيطة، يشتم منها أنه يحضر لمواجهة عسكرية مع جاره الشرقي؛ كانت أنظاره متجهة نحو أقاليمه الصحراوية، منهمكا في بسط سيادته عليها، وضمان أمنها وأمن سكانها، وفي بناء المصالح الإدارية والأمنية لتسيير شؤونها. لم يتأخر النظام في الجزائر في تنفيذ نواياه، ففي 27 يناير من السنة نفسها قام كومندو جزائري، قادم من تندوف، بالهجوم على عين بن تلي المغربية، وتحطمت طائرة مغربية من نوع ف 5 بواسطة صاروخ سام 6 سوفياتي الصنع. وفي الشهر نفسه اخترق الجيش الجزائري حدود بلاده وتعداها بحوالي 300 كلم، متوغلا داخل التراب المغربي، وتواجه مع الجيش المغربي الذي كان قد حرر أمغالا. كان يقود الجيش الجزائري، حينذاك، ضابط اسمه قايد صالح؛ هو الضابط الذي سوف يصبح قائدا أعلى للجيش الوطني الشعبي في عهد عبد العزيز بوتفليقة، وهو الذي سيتخلى عن بوتفليقة حين انتفض الشعب الجزائري مطالبا هذا الأخير بالتنحي، وهو الذي سيلقي خطابا، تنقله وسائل الاعلام، يشرح فيه بنود الدستور المتعلقة بحالة عجز الرئيس عن القيام بمهامه، وبناء على ذلك سيفرض على رئيسه تقديم استقالته، وهو الذي اتهمه الجنرال خالد نزار بأنه هرب من معركة أمغالا تاركا قواته عرضة للهزيمة. في تلك المعركة حاصرت القوات المسلحة الملكية القوات المعتدية، وأسرت أكثر من 120 من الضباط والجنود، من بينهم قائد الأركان الحالي سعيد شنقريحة، الذي غدا يحمل لبلادنا أشرس العداء، ويحقد عليها حقدا مرضيا، واستولت على كمية كبيرة من السلاح الثقيل والمتطور، يضم صواريخ من نوع سام 6 وسام 7، وصواريخ أرض جو، وعلى كمية من المحروقات تقدر ب 50000 (خمسين ألفا) لتر. ولولا تدخل بعض الدول العربية لما تمكنت فلول الجيش الجزائري المحاصرة من العودة إلى بلادها. في هذه الأثناء كانت القوات المسلحة الملكية تدافع عن أراضي بلادها، وتعمل على واجهتين، واجهة التصدي لكل اختراق لحدود المغرب من طرف الجيش الجزائري، وواجهة مقاومة وطرد المليشيات الانفصالية. وكانت تلك المليشيات تنطلق من التراب الجزائري، وتنفذ اعتداءاتها داخل الأراضي المغربية؛ وكانت كلما هجمت على مدينة أو تجمع سكني اختطفت عشرات المواطنين، وحملتهم إلى تندوف، حيث تحتجزهم قوات النظام الجزائري في مخيمات، منح لكل واحد منها اسم من أسماء مدن الأقاليم الصحراوية المغربية، قصد تضليل المجتمع الدولي. وبالفعل انطلت الحيلة على بعض الدول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، حليفة النظام الجزائري، حتى إن برقياتها وإرسالياتها وجهت إلى مدينة العيون، إذ كانت حكوماتها تتصور وتظن أن العيون هي فعلا عاصمة الانفصاليين، في حين أنها مجرد اسم اطلق على أحد المخيمات. لم يقتصر حكام الجزائر على هذا النوع من التضليل والخلط فحسب، وإنما ابتدعوا ما هو أغرب؛ والحق يقال أنهم نجحوا في فرض الغرائب على بعض الدول، وجعلوها تصدقها، أو فرضوا عليها تصديقها، حتى إنهم استطاعوا جرها إلى خرق القوانين والأعراف الدولية.. صنعوا كيانين اثنين: الكيان الأول هو «البوليساريو» الذي أطلقوا عليه اسم حركة تحرير، يوظفونه في المحافل الدولية ولدى الدول التي لا يمكن الاحتيال عليها أو التغرير بها، ولدى منظمات المجتمع المدني، على أساس أنها حركة تدافع عن حق شعب في تقرير مصيره؛ والكيان الثاني داسوا، في خلقه، على مبدأ تقرير المصير الذي مازالوا يرفعونه في مواجهتنا، ووصفوه بالدولة، وأطلقوا عليه اسم «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية»؛ مع العلم أن ما يسمونها دولة لا تتوفر على أي مقوم من مقومات الدولة، فهو كيان لا أرض ولا شعب له يمارس عليهما سيادته ويدبر شؤونهما؛ أرضه هي تندوف، منطقة جزائرية، و«شعبه» مواطنون مغاربة وغير مغاربة محتجزون في مخيماتها، تطوقهم القوات الجزائرية، وعاصمته توجد في الفنادق الفخمة بالجزائر العاصمة. من يستطيع خلق مثل هذا النوع من الكيان الوهمي، الذي لا سابقة له في تاريخ الحضارة البشرية الحديث، ويرعى وجوده، ويضمن بقاءه قيد الحياة، وينجح في إقناع عشرات الدول بأنه فعلا دولة، وجب الاعتراف بها، وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها، وفتح سفارات لها في عواصمها، من يستطيع ذلك غير النظام العسكري الجزائري؟ من هم الحكام الذين يستطيعون إنفاق عائدات النفط والغاز الطائلة وتوظيفها بسخاء في تسليح مليشيات انفصالية ورعايتها، وخوض اعتداء مسلحة بالوكالة، وفي تجنيد وزرائهم وبرلمانهم، وسفاراتهم، وإعلامهم، ولوبياتهم، وحلفائهم، من أجل منازعة بلد جار، مسالم، لا يشكل أي تهديد لغيره، جزءا من أرضه، من يستطيع القيام بهذا، على حساب حق شعبه في الاستفادة من خيرات بلاده، سوى النظام الحاكم في الجزائر؟. في سنة 1984، حين توالت هزائم المليشيات الانفصالية، وتسارعت وتيرة طردها نحو قواعدها في الجزائر، وحين قطع المغرب أشواطا كبيرة في تأمين أقاليمه الجنوبية، وأشرف على الانتهاء من بناء الجدار الأمني، قام النظام الجزائري بعملية هروب إلى الأمام، واشترى من آدام كودجو، أمين عام منظمة الوحدة الإفريقية، ومن أغلب أعضائها آنذاك، الاعتراف بالجمهورية الوهمية عضوا في المنظمة القارية. لم يستطع الحصول على مثل ذلك الاعتراف لا من الأممالمتحدة، ولا من منظمة عدم الانحياز، ولا من الجامعة العربية؛ نجح في الحصول عليه في منظمة الوحدة الإفريقية وحدها. كيف؟ يؤكد مدير سابق لقسم إفريقيا في وزارة الخارجية التونسية في إحدى شهاداته أن كواليس منظمة الوحدة الإفريقية في ذلك الوقت كانت «سوقا يباع ويشترى فيه التصويت». مثال ذلك: وفود تضطر لتبيع صوتها لصالح موقف النظام الجزائري، إما مقابل تسديد فاتورة استيراد أدوية تحتاجها دولتها لمدة ستة أشهر مثلا، وإما مقابل إهدائها باخرة محملة بالنفط، من شأنها تسديد حاجيات بلادها من الطاقة لمدة عام، وإما مقابل مساعدات تكون حكوماتها في حاجة ماسة إليها، وإما مقابل حقائب مملوءة بالدولار تمنح لرئيس هذا الوفد أو ذاك... الخ. هذا هو أسلوب حكام الجزائر في شراء ضمائر بعض حكام الدول الإفريقية في ذلك الزمن. وبيع وشراء الضمائر هو ما أدانه المغرب، وفضل الانسحاب من منظمة حولها النظام الجزائري إلى سوق تباع وتشترى فيها المواقف والقرارات.