ديزي دروس ينطق بلسان العامة كثر الجدل في الأوساط الأكاديمية والثقافية حول دور الشعر في عصرنا الحالي، ومدى التقارب بينه وبين الأغنية. وهل بار سوق الشعر بعد أن انفصل عنها، باعتبار أن القصيدة هي المرحلة الأولى من مراحل ولادة الأغنية مرورا بالتلحين ووصولا إلى أداء المغني. ومازالت محاولات النهوض بالشعر مستمرة منذ عصر الإحيائيين في القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، ومازال يظهر في كل مرة توجه يسعى لرد الاعتبار لهذا الفن العربي الضارب في القدم، والذي لا تعرف له بداية. أشد ما كان يخشاه (الحداثيون) في العصر الحديث هو أن يبقى الشعر مربوطا بالتقليدي وبكل موروث وقديم، ودعوا إلى تفجير اللغة وبناء لغة حداثية، ورؤية جديدة تعبر عن المعاصرة بمفهومها اللغوي عند البعض، والأيديولوجي عن البعض الآخر. لكن مازلنا لحد الساعة ننتظر أن يصل (الحداثيون) إلى شعر معاصر حقا يعبر عن واقع معاصر. ومازلنا نعلق الآمال على أن يصير الشاعر حاضرا بصورته الرمزية والفنية في وجدان النشء والشباب، ويأخذ بأيديهم إلى رؤيته الواقعية أو الثورية أو المثالية، أو إلى أي رؤية أخرى يستطيع من خلالها أن يغير واقع أمة تطمح إلى التغير وتسعى إلى النهوض. ربما كان التركيز في تجديد الشعر على شكله مقرونا بماضيه، دون البحث في ماهيته وجوهره بالشكل المطلوب، كتعبير إنساني يتغير بتغير الإنسان، ونمط الحياة. فهل فكرنا في ماهية الشعر؟ ومن هو الشاعر؟ وما هي وظيفته الأساسية؟ ما الشعر؟ قد لا نختلف كثيرا إذا قلنا على سبيل العموم بأن الشعر هو تعبير إنساني عادي مثله مثل الضحك والبكاء ناتج عن مشاعر الحزن والسرور وغيرهما من المشاعر، كالحب والكره وربما الندم والتحسر... إلخ. وهي التي عبر عنها القدماء بقواعد الشعر، أو الأغراض، وتنحصر غالبا بين الرغبة والرهبة والطرب والطمع. أما الشاعر فهو (الإنسان المثالي) القادر على ترجمة هذه التعابير بالشكل الشعري/الفني المطلوب. ووظيفته لا تتعدى في كونها مساعدة للإنسان على ترجمة مشاعره والتعبير عنها بالشكل اللائق بها. لذلك كان للشاعر معجبون ومناصرون لرؤيته الشعرية. لأنه يلبي حاجتهم في التعبير عما أرادوا التعبير عنه. فهو ناطق بلسانهم. وكلنا يعرف عن المتنبي أنه ملأ الدنيا وشغل الناس، وما ذلك إلا لأنه كان ينطق بلسان العامة كما أشار محمد كمال حلمي بك في كتابه "أبو الطيب المتنبي" حيث قال: "وكأنما أخذ على نفسه [أي المتنبي] أن يترجم عما في نفوسهم في كل ظروف الحياة من أجل ذلك أقبل الناس على شعره وأكثروا الاستشهاد به، وهذه مزية لم ينلها كثير من الشعراء". فهل مازال هذا القانون ساريا؟ وهل مازال الشاعر الجيد هو من يحسن النطق بلسان العامة؟ ربما تكون الإجابة واضحة لأول وهلة. ونستدعي المتنبي مرة أخرى ليقول: وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل فبعيدا عن مصطلح "الشاعر" نستحضر حاجة الإنسان الماسة إلى من ينطق بلسانه عن مشاعره وما يحس به. وهذا ما يجعل أهل الميت في بعض الثقافات يدعون النائحة لتنوح مكانهم. ليس لتذرف الدموع فقط. بل لترسل الكلمات والأشعار الحزينة على ميتهم، وتحفزهم على البكاء، وبالتالي التنفيس عن فائض الحزن الذي حل بهم. والعملية نفسها يقوم بها من يستدعي مغنيا في الفرح ليجعل الناس يطربون ويرقصون وينفسون عن فائض الفرحة التي حلت بهم. فهي إذا عملية عادية اعتاد عليها البشر منذ القدم، وقس على هذا في المناسبات والحالات الأخرى. فالشاعر لا يعدو كونه ناطقا بلسان جماعة من الناس، ويختلف الشعراء في التعبير عن مضمون الشعر باختلاف الجماعات. ويتفاوتون في جودة الشعر حسب قدرة كل شاعر في التعبير الفني والدقيق عن الجماعة نفسها. ربما تقربنا هذه النظرة من المنهج الاجتماعي/الماركسي في بعض جوانبه، لكنها في المقابل تجرنا لنسأل في عصرنا الحالي وفي هذا الوقت بالذات، وبصوت مرتفع أين الشعر؟ وأين اختفى الشعراء؟ توزع دمه بين القبائل إذا قلنا مجازا إن الشعر قد توزع دمه بين القبائل، فهذا لا يعني أننا نقر من جهة أخرى بأن الشعر قد مات، ولكنه أقرب إلى رجل ثري وزع ثروته على أبنائه قبل موته، وبقي عالة عليهم يعطوه أو يمنعوه. فمن هم أبناء الشعر البررة؟ يمكن أن نحصي وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، وإدارة الأمن الوطني والقومي، والصحافة، والسينما، والمسرح، والتلفزيون، والأغنية، وكثير من جمعيات المجتمع المدني، والجمعيات الخيرية والإنسانية الحكومية وغير الحكومية. كل هذه المؤسسات وغيرها من ورثة الشعر ومن أبنائه الشرعيين الذين نسلوا من صلبه. فقد كان الشاعر هو الآمر الناهي فيها. وكلمة منه كانت تغني عن دور مؤسسات من هذه في عصرنا الحالي، لكن لمزيد من الدقة في تقسيم تركة الشعر نتوقف اليوم عند ما قلناه في البداية عن ماهية الشعر ودور الشاعر. إننا نبحث عمن يؤدي هذه الوظيفة الإنسانية، من يقدم المساعدة للإنسان بترجمة مشاعرهم والنطق بها، والتعبير بلسان حالهم. والتأثير فيهم، وتحريك الراكد من مشاعرهم. في هذه الحالة لن نتسرع ونقول إن "الراب" هو من أخذ هذه المكانة بحكم انتشاره الواسع وتناوله للمواضيع العامة التي تهم المجتمع، وتأثيره في طبقة واسعة من الناس، ولكن سنحاول قدر الإمكان رصد أوجه التلاقي بينه وبين الشعر، وإلى أي جهة تميل الكفة. الشعر و"الراب".. أوجه التلاقي أوجه التشابه بين الشعر و"الراب" كثيرة جدا، ويمكن أن نقول إن الراب هو صاحب الحصة الأكبر من تركة الشعر التي توزعت بين الفنون، وقد ذهب نعمان الحلو في الحلقة التاسعة من برنامجه "Pianissimo مع نعمان" إلى أن الراب هو شعر أكثر منه غناء وموسيقى، وساق مجموعة من أوجه التشابه بينهما، ومنها أنه يكتب على إيقاع معين ويمكن أن يكون حرا أو مقفى، ثم أنه يقوم على الهجاء (الكلاش)، بالإضافة إلى الارتجالية، واللعب بالكلمات، ثم كونه تجربة ذاتية يكتبها "الرابور" بنفسه ولا يحتاج فيها إلى كاتب كلمات. وإن كنا نتحفظ على جعل "الراب" شعرا بهذه الطريقة الجريئة، دون أن ننظر في تقسيمات الشعر المعروفة وأكبرها الفرق بين الشعر والزجل والملحون وغيرها، لكن هذا لا يمنعنا من أن نتفق معه في هذا التقارب بين "الراب" والشعر وأولها أنه كلام موزون بإيقاعات معينة، ومقفى في غالب الأحيان، فضلا عن اللعب بالكلمات، بالإضافة إلى الذاتية في "الراب"، وحضور ذات "الرابور" في أغانيه التي تعد ميزة جديدة جدا في الحقل الموسيقي، وتقرب هذا الفن من الشعر أكثر، فكما يتوجب على الشاعر ألا يناقض ذاته وأفكاره في شعره، كذلك نجد "الرابور" يحاول ما أمكنه أن ينسجم مع ذاته في كل أشعاره، وألا يخرج عن شخصيته الحقيقة ومبادئه التي يدافع عنها. وهذا ما لا نجده عند المغني العادي الذي قد نجد في مساره الفني أغنيات تناقض بعضها، والتي لا تعبر لا عن طبقته ولا مجتمعه ولا عن أفكاره الخاصة، وتنحصر غالبا في باب الغزل والنسيب. ومما يؤكد هذا أيضا أن "الرابور" في غالب الأحيان يكتب نصه بنفسه، ولا يستعين بكاتب كلمات أو شاعر آخر. ولعل من أبرز أوجه التشابه بين الشعر و"الراب" هو كون الراب يحتاج إلى تأويلات عدة، خصوصا إذا كان مرفوقا بصور ومشاهد مع وسائط متنوعة تقبل تأويلات متعددة. فنلاحظ أن مما يميز هذا الفن هو هذا الغموض في الوهلة الأولى، حتى أننا نجد من يشرح أغاني "الراب" بعد صدورها، ليتسنى للمتلقي فهمها بالشكل المطلوب، وكل يؤول ما يراه من زاويته. الشعر و"الراب" إلى أي كفة يميل فن القول؟ لم تستطع الكثير من القصائد تحريك الرأي العام والشباب والسياسيين بالقدر الذي تفعله أغنية "راب" واحدة، فكم من الشعراء كتبوا عن مواضيع اجتماعية واقتصادية وسياسية يعيشها المجتمع لكن من ينظر إليها وينصت إليها ويتفاعل معها؟ أليس هذا هو دور الشاعر؟ لكن عمر السهيلي المعروف ب"ديزي دروس" في ظرف يومين من إطلاق كليب "مع العشران" خلق ضجة على جميع المستويات، فجعل رئيس فريق العدالة والتنمية بالبرلمان يستشهد به في (خطابه السياسي المعارض) عن واقع المجتمع المغربي، لأنه يرى في هذه الأغنية حديثا موحدا للمغاربة الرافضين للواقع السياسي والاقتصادي في البلاد. وفيصل القاسم أيضا يغرد من الدوحة متفاعلا مع أغنية ديزي دروس وينشر مقالا مفصلا يتحدث عن الكليب بعنوان "أغنية راب مغربية مع فيصل القاصف تتصدر التريند". هذا ما يمكن أن نقوله على المستوى الشعبي، أما على المستوى الرسمي فالكفة ظاهر ميلانها إلى جهة "الراب"، فحضوره المطرد في المحافل الدولية والتظاهرات الهامة أصبح أمرا عاديا ومتعارفا عليه، في وقت أصبحت فيه الكتابات الشعرية في أغلبها طلامس غير مفهومة، تسعى لتفجير اللغة ونسف المعنى، وأمسى النظر إلى الشاعر على أنه ذلك الكائن الرومانسي الوحيد الفار من الواقع إلى الخيال، يقول ما لا يفهمه هو ولا يفهمه الجمهور إن وجد جمهورا متفرغا للشعر. وهذا لا يعني أننا نحط من قدر الشعر والشعراء، وإنما ننبه إلى ما صار إليه الشعر في وقت كان يسعى فيه إلى الريادة. ف"الراب" لن يكون بديلا عن الشعر وليس منافسا له في مضمار الإبداع، بل هو فن صنع مضمارا خاصا به، وشق لنفسه طريقا مختلفا، واحتفى به الناس، وليس ذلك لأنه غريب ومختلف عنهم، بل لأنه نابع منهم، ويشبههم، وينطق بلسانهم.