ولج عالم الإعلام بالصدفة من خلال اجتيازه لمباراة نظمتها الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، كان يعتقد أنها خاصة بالتنقيب عن مواهب مسرحية، ليجد نفسه وهو التلميذ حينئذ في سلك البكالوريا سنة 1986، مكلفاً بإعداد الأخبار العلمية في نشرات التلفزيون العمومي وبعد ذلك تقديم نشرات الأخبار، فقرر ولوج الجامعة توازياً مع وظيفته، حيث حصل على شهادة عليا في العلوم السياسية. محمد عمورة، صوت إذاعي يرافق المغاربة منذ سنوات، وأحد المنشطين المتميزين داخل الإذاعة الوطنية بشكل غطى على اشتغاله في بعض الفترات الزمنية أمام كاميرا القناة الأولى. تعرّف عليه المستمع المغربي في عدة برامج مثل "منك وإليك" "حضي راسك" "مسابقات مفتوحة" واستطاع التتويج في مساره المهني بمجموعة من الجوائز الوطنية والعربية. في هذا الحوار، ينتقد عمورة بعض الإذاعات الخاصة معتبراً أنها تشيع ثقافة الرداءة في المجتمع المغربي، مشدداً على وجود منشطين يفرغون التنشيط من كل أهدافه السامية، مبرزاً كيف أن الركض وراء نسب الاستماع، يجعل بعض هذه الإذاعات تسقط في فظائع أخلاقية من قبيل بث أغاني شهوانية وبرامج تسأل المستمعين عن تفاصيل حياتهم الجنسية. يكثر الحديث عن الإعلام العمومي وعن جودته نظرا لكونه ممولاً من جيوب دافعي الضرائب، كيف تقيّم وضعية هذا الإعلام وبالضبط داخل الإذاعة الوطنية التي تشتغل بها؟ أحياناً أحس أن الإذاعة الوطنية موجودة فقط لكي تستمر ولملأ الفراغ ولإقناع المغاربة أن الإذاعة لا زالت على قيد الحياة، الخطاب الإعلامي شبيه بوصفات الدواء، فعلى الصيدلي أو الطبيب الذي يقدمها، أن يعي جيدا آثارها على المستهلكين. وللأسف، فالإذاعة الوطنية لا تتوفر على استراتيجية واضحة تلخص أهدافها وآثار خطابها على المستمعين. هناك العديد من الأسئلة التي أطرح حول واقع الإذاعة ولا أجد لها جواباً: هل تعرف سلوكيات المجتمع؟ هل تدرك طبيعة الرسائل التي تريد تمريرها في فترة زمنية معينة؟ هل تُسوّق محطاتها الجهوية لثقافة القرب؟ هل خلقنا الإذاعات الأمازيغية و الناطقة بلغات أجنبية لوجود مواطنين مغاربة لا يتحدثون سوى تلك اللغات؟ أم هي فقط لذر الرماد في العيون؟ ما هي مؤهلات العنصر البشري على اختلاف مهامه؟ دون الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل واضح وصريح، ستستمر إذاعتنا في الاشتغال دون استراتيجية واضحة المعالم. هل استطاعت الإذاعة الوطنية الانتقال إلى مفهوم الإعلام العمومي أم أنها لا زالت تعكس خط الإعلام الرسمي؟ الإذاعة الوطنية لا تمتلك هوية تحريرية واضحة، يمكنك كمستمع أن تجد وجهة نظر الدولة أو الإعلام الرسمي في الأخبار وفي بعض البرامج الحوارية، ويمكنك أن تجد إعلاماً عمومياً في بعض البرامج الاجتماعية، كما يمكنك أن تجد في الإذاعة ذلك الإعلام التائه الذي لا هوية له. الإذاعة الوطنية تعيش مشكلا حقيقياً متجسداً في غياب الهوية وقوْلي هذا أصرح به غيرة على هذه المؤسسة التي أتشرف بالانتماء إليها. إن صوّرت وضعية الإذاعة الوطنية بهذا الشكل، فما الذي يمكنك أن تقوله حول الإذاعات الخاصة؟ أولا ومن ناحية المبدأ، تجب الإشارة إلى أن وجود هذا النوع من الإذاعات مهم للغاية ويغني الإعلام المسموع، لكن الطريقة التي بدأت بها الإذاعات الخاصة، تشبه عملية فتح محلات مخادع هاتفية، هناك مجموعة من أصحاب الشكارة الذين انتقلوا من مجالات مختلفة إلى مجال الإعلام، وافتتحوا قنوات إذاعية جعلوها وسيلة تجارية للربح المادي وفقط، حتى ولو تعلق الأمر بإذاعات لا هوية ولا لغة واضحة لها. صراحة أنا أبكي هذا الجيل الصاعد الذي يستمع إلى هذه الإذاعات، وأبكي هذا التسيّب اللغوي الذي لا ندري هل هو عربية أو فرنسية أو لغة أخرى، جيل لن يعرف لغته بشكل واضح وسيعتقد أن تلك الرداءة التي نسمعها في الإذاعات الخاصة هي لغة المغاربة. معظم هذه الإذاعات تدمر الهوية والفن المغربي وما بناه أجدادنا وأسلافنا، تستخدم أياً كان من أجل التنشيط، وباستثناء بعض الوجوه التي نقدرها داخل هذه الإذاعات، هناك من يصنع الرداءة بشكل فظيع دون إدراك أن ما يقوم به سيكون له تأثير خطير على المجتمع المغربي، فإذا كنا نتحدث عن مقاولة مواطنة، فالمطلوب هو أن تكون كذلك إذاعة خاصة مواطنة تعي أهمية الإعلام في تكوين الرأي العام. هل سبق لك وأن توصلت بعروض من أجل العمل بإذاعة خاصة؟ نعم، عُرضت علي الكثير من العروض لكي أستقيل من مهنتي وأدير محطات خاصة، ولكن احتراماً للمستمعين الذين صنعوا اسمي، لا يمكنني أن أشتغل في إذاعة خاصة تنعدم فيها شروط المهنية، ولا يمكنني أن أصنع الرداءة، فأنا إعلامي يحترم رسالة هذا الميدان. لكن هناك وجوه إعلامية كان لها حضور في وسائل إعلامية مسموعة أو حتى مكتوبة، وحاليا تشتغل داخل إذاعات خاصة؟ طبعاً، هناك مهنيون يحاولون تطوير الإذاعات الخاصة، ولكن هناك كذلك منهم من اختار السير في طريق الرداءة، وكان على هؤلاء المهنيين، واحتراماً لمن يعرف أسماءهم، أن لا يشاركوا في هذه الصناعة. يمكن تقبل الخطأ من منشط أو صحافي مبتدئ، لأن الخطأ ليس خطأه لوحده، بل خطأ من نادى عليه وأعطاه فرصة التواصل مع الناس عبر كلام غاية في السطحية، أما أن يقوم صحافي ومنشط مهني بمثل هذه الأخطاء، فهو أمر غير مقبول منه بتاتاً. طيب ما هو التنشيط في نظر عمورة؟ التنشيط هو الكلام المسؤول الذي يدغدغ العقول و يحملها على الاستيعاب دون بذل مجهود، مثلا إذا أردت تمرير رسالة متعلقة بمحاربة السيدا، يمكنني أن أعالج الأمر بشكل مباشر، وسيكون البرنامج رتيبا تطغى عليه الأستاذية، وهناك طرق غير مباشرة يمكن تمريرها في برامج موسيقية أو ترفيهية لا علاقة لها بما هو روتيني. إلا أن التنشيط الذي نستمع له في غالبية الإذاعات الخاصة، لا رسالة له، وهو وسيلة لملأ الفراغ والحديث من أجل الحديث، بل أن هناك من يعتقد أن التنشيط هو التقشاب ومحاولة إضحاك الآخرين. الكثير من منشطي الإذاعات الخاصة لهم نسبة هائلة من الممتبعين بحيث صار البعض ينظر لهم كنجوم، قد يعارضك قارئ ما بأن هؤلاء المنشطين نجحوا في مهاهم؟ عن أي نجومية نتحدث والمنشط يقتحم الحياة الشخصية للأفراد؟ عن أي عن أي نجومية نتحدث والمنشط يسائل متصلة ما هل قامت بتعرية جسدها في لقائها الغرامي الأول؟ يجب أن نعيد تعريف النجومية في مثل الحالات. عندما يبدأ منشط في إذاعة خاصة باستقبال المكالمات الهاتفية التي تجامله، يعتقد نفسه أنه صار ناجحاً وأنه يتجاوز مهنية من سبقوه في هذا الميدان، لدرجة أنه لا يتقبل أن يسدي له صحافي مهني نصيحة أو أن يقوم بتوجيهه وأحياناً يعتقد نفسه أفضل من أطر إعلامية قدمت بصمتها في العمل الإذاعي بالمغرب. لكن، ألا يُحسب للإذاعات الخاصة أن خلقت جواً من التنافسية قد يقدم نوعاً من الجودة مستقبلا؟ يا أخي الفاضل، هذه إذاعات تتنافس في الميوعة، تماماً كما هو الأمر بفتيات يتنافسن في اللباس القصير وأي واحدة منهن سترتدي التنورة الأكثر إثارة. لا يُعقل أن تبث إذاعة خاصة أغاني يصف فيها المغني بطريقة شهوانية جسد امرأة ما، ولا يعقل أن تبث أغاني تتغنى بالخمر وبالعلاقات غير المشروعة. صراحة ما أسمعه في بعض الإذاعات الخاصة هو نوع من البورنوغرافية المسموعة المتجسدة في أغاني وبرامج بدون هوية. قد يعارضك قارئ ما بأن الإذاعات الخاصة هي مؤسسات خاصة وغير مُلزمة باتباع نفس المعايير التي يؤمن بها محمد عمورة؟ حتى ولو كانت الإذاعات الخاصة تندرج في إطار الإعلام الخاص، فهو إعلام خاص عمومي، ويدخل في إطار المنفعة العامة، فإذا كان يمكن أن نطلق على مؤسستنا إذاعة رسمية عمومية، فكذلك يجب أن نسمي الإذاعات الأخرى ب"الخاصة العمومية" ما دام الجمهور المغربي يستمع لها وتدخل كل بيت بلمسة زر. باسم علاج الناس هناك إذاعات تمارس العطارة، وتتسابق من أجل البحث عن "عطارين"، وهناك إذاعات تتاجر في مآسي الناس أو أحزانهم، دون الاعتبار لمدى تأثير مثل هذه البرامج على الرأي العام. لكن، ألا يعاني مدراء الإذاعات الخاصة من قلة الصحافيين أو المنشطين الإذاعيين المؤهلين، خاصة وأن هناك الكثير من الانتقادات التي تطال معاهد التكوين الإعلامي؟ المعاهد لا يمكنها تكوين منشط أو صحافي إذاعي أو تلفزيوني، يمكنها أن تعطي للدارس مفهوم الصحافة وكل ما هو مرتبط بالآليات و المدارس الصحافية، لكنها لا يمكن أن تعطي الموهبة التي تميّز المنشط. المشكل الذي يقع، هو أن البعض يختار المعاهد الإعلامية فقط لكي يحصل على دبلوم يؤهله لولوج سوق الشغل دون أن يكون مقتنعا بالإعلام. المنشط الناجح يجب أن يكون موهوباً أولا و باحثا مثقفا متطوراً باستمرار ثانيا، ويمكن حتى لمن دخل الإعلام صدفة و كان موهوباً أن ينجح إذا ما طوّر إمكانياته. المواهب الإذاعية موجودة في المغرب، لكن يلزم فقط البحث عنها والاعتناء بها وصقل تجاربها، مثلاً وقياساً لتجربتي في العمل الإذاعي، لم يسبق لأي إذاعة خاصة ان استدعت أي مهني من أجل إجراء ورشة تكوينية لفائدة صحافييها أو منشطيها، الكل يعتبر نفسه عالما بمجرد ما يقدم أول حلقة من أي برنامج و بالتالي فهو لا يحتاج لمن يوجهه و يعيد تكوينه. المُلاحظ أن بعض الإذاعات الخاصة بدأت تُنوّع من طريقة عرض برامجها بأن تضع تسجيلات مرئية لها على اليوتيوب، كيف ترى الأمر؟ باسم التطور التكنولوجي، صرنا ندمر جميع القواعد المهنية، عندما نتحدث عن برنامج تلفزيوني، فهناك مقومات خاصة به، وكذلك الأمر بالنسبة لبرنامج إذاعي. يمكن أن نجتهد ولكن هناك حد يجب احترامه، وليس أن تتحوّل الإذاعة إلى وسيلة لمراكمة الأموال عبر الرفع من نسب الاستماع وتوقيع العقود الإشهارية. المسؤولية كذلك يتحملها الضيوف الذين يُستدعون من أجل المشاركة في مثل هذه البرامج الإذاعية ويسمحوا بتواجدهم في مقاطع فيديو. دخل المغرب منذ سنوات في تجربة تحرير القطاع السمعي-البصري، وقد يُقبِل مستقبلا على فتح المجال لقنوات تلفزيونية خاصة، هل بمقدور هذه القنوات أن تتجاوز هذه المطبات التي تعاني منها الإذاعات الخاصة؟ أتمنى من الدولة التريث قبل فتح مجال الإعلام المرئي كي لا تتكرر مثل هذه التجارب التي نعيشها على المستوى الإذاعي، كما أن ما نشاهده حاليا حتى في قنوات الإعلام العمومي لا يبشر بخير، خاصة مع انتشار برامج اجتماعية تختلق قصصا معينة وتُظهرها على أنها واقع من أجل الرفع من نسب المشاهدة. يبدو أننا ضللنا الطريق في مجال الإعلام المرئي أيضا، فإذا كانت القنوات العمومية تبرر بعض اختياراتها بالتنافس على نسب المشاهدة العالية، ألا يحق لنا أن نتساءل: منذ متى كان همّ القنوات العمومية هو الرفع من هذه النسب والحصول بالتالي على الإشهار وهي صاحبة الأهداف التي تصب في الإسهام في تقدم الوطن و المواطن؟ الإعلام العمومي في العالم بأسره يموّل من جيوب المواطنين، حتى لا تكون له ذريعة للتنكر لرسالته التي خلق من أجلها وأهدافه أسمى وأكبر من هذا العبث الذي صرنا نشاهده على قنواتنا. وما هو دور " الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري" في هذا الجانب؟ مع احترامي لمن يشتغل في "الهاكا"، فالقوانين التي تعمل في إطارها يجب أن تُحيّن، ويجب أن يتم تعديل طريقة تكوين أعضاء مجلسها، فالأغلبية هناك لا علاقة لها بالإعلام السمعي-البصري، ولا أدري كيف تتواجد في مؤسسة حساسة مشرفة على الإعلام السمعي-البصري. إضافة إلى ذلك، فهذه المؤسسة غير قادرة على الردع، هناك منشطون يرتكبون جنايات في حق المتلقي ومع ذلك لم يتم توقيفهم، وأتذكر جيدا كيف أن وزير الصحة كاتب "الهاكا" بخصوص برنامج معين ولم يتم اتخاذ أي قرار في هذه القضية، لدرجة أن التساؤل قد يكون مشروعاً حول المنطق الذي تشتغل به الهيئة التي من المفروض أن تضرب المثل في المهنية .