عندما تعلن دولة ما, بأن منطقة ما من مناطقها, منطقة منكوبة, جراء فيضانات عاتية, أو حرائق مهولة, أو زلزالا مدمرا, أو بركانا أتى على الأخضر واليابس, فإنها إنما تعترف بأن المصاب جلل حقا وحقيقة, وأن الذي وقع يستوجب تجنيد الدولة المركزية لكل إمكاناتها, ومصادر قوتها لإغاثة المنكوبين, وإسعاف المتضررين, وإيواء من لم يعد له من مأوى يستظل بظله, أو مصدر أكل وشرب, أو ملجأ أو جهة تطبيب. "" هي حالة قصوى وبكل المقاييس, تستنفر بموجبها الدولة فرق طوارئها, وأطقمها الطبية, وسبل إسعافاتها المدنية, حتى إذا ما استعصى عليها الأمر جراء هول النازلة, أمرت بتدخل المؤسسة العسكرية, باعتبارها الأقوى تجهيزا, والأكثر جهوزية وتدريبا, لمواجهة موقف هو إلى الحرب أقرب منه إلى شيء آخر, اللهم إلا بفارق أن المبادر لشنها هنا, كامن في غضب الطبيعة, لا في غضب البشر, أو احتقان الحقد والضغينة بين القادة والرؤساء, على أساس من هذا الترسب النفسي أو ذاك. وعندما انفجر غضب الطبيعة بمنطقة الغرب (غرب المغرب أعني, تموقعا جغرافيا ومسمى), جرفت المياه العاتية البشر والحجر, وبلغ ارتفاع منسوب المياه, جراء أمطار طوفانية, بلغ مستويات عليا, ذهبت بجريرتها مداشر وقرى, وقطعت الطرق والمسالك جراءها, وجرفت الحقول عن بكرة أبيها, ولم يجد الناس بدا ولا بديلا عن الهروب بأرواحهم وأبنائهم, تاركين خلفهم زرعهم وضرعهم ومجال سكناهم, كل وفق ما استطاعه أو تمكن منه. أقول عندما انفجر غضب الطبيعة بمنطقة الغرب, لم يجد البشر ولا الحيوان, معينا ولا منقذا, ولا طواقم تدخل سريع أو إسعاف, بل وجدوا أنفسهم وجها لوجه, مع مياه تجرف كل من يعترض طريقها, وسيول تغطي الحقول والبساتين عن آخرها, وانجراف للتربة يكاد يسوي الهضبات الثابتة بالسهول القائمة, ويدفع بقوة ولكأنه يتغيأ حقا, تغيير جغرافية المنطقة ومعالمها, وتسوية مرتفعاتها بالأرض. لم تحرك الدولة ساكنا, ولم ترتجف الحكومة القائمة هنا بالرباط, لهول ما وقع, ولا يزال جاريا بأغنى منطقة فلاحية بالمغرب, ولم يحرك المنتخبون, الوطني منهم كما الإقليمي كما المحلي, لم يحركوا ساكنا, ولا عمدت الدولة إلى إعلان منطقة الغرب منطقة منكوبة, بل بقي الكل متابعا للأخبار, من خلال تلفزيون رسمي كاذب ومضلل, أو عبر فضائيات لا تتعدى في تغطيتها للمحنة, جانب الصور المعبرة والمؤثرة. ولما بلغ السيل الزبى بجماهير طاولها الغبن والغضب, من موقف الدولة وأدواتها بالإقليم, إقليمسيدي قاسم, وانصرف عنها كل من خالته عضدها, انفجرت في تظاهرة شعبية بقرية الخنيشات, عاصمة المنطقة, مدمرة من أمامها ومن خلفها, كل ما يرمز لوجود الدولة بالمنطقة, أو تعتبره ملكا خاصا لمنتخبين لم يظهر لهم من أثر يذكر, و"قاعدتهم الانتخابية" تجرفها المياه وتتقاذفها السيول. لم تنفجر ساكنة الخنيشات بسبب غياب الدولة فحسب, بل وأيضا جراء تقاعس مكوناتها, وبعض من ممثليها المحليين والإقليميين, وتحريفهم لوجهة بعض من الأغذية والأغطية, بقيت محتجزة هنا أو هناك, فيم الناس مكدسون بمركز فلاحي, هو بالأصل مخصص للبهائم, أو لحفظ الأسمدة, أو محول ليكون مرأبا لجرارات متهالكة, وأدوات فلاحية غير ذات فائدة. لم تعمد الدولة, بهذه الحالة, حالة الانتفاضة الجماهيرية الجارفة بالخنيشات, لم تعمد فقط إلى التدخل بما أوتيت من قوة بطش وعنف, شارفت على الإذن للجيش بالتدخل ربما, بل لجأت إلى حملة اعتقالات طاولت العشرات من المواطنين, تحت مسوغة "إتلاف منشآت عامة", أو "التجمهر بدون إذن", أو "زعزعة الأمن العام", أو ما سواها من مسوغات يزخر بها القانون عندنا بالمغرب, وصيغت بدقة للتصدي لهذه الحالات, وبالقانون, الواضح منه, كما المضمر بين السطور. ليس ثمة من شك أن تظاهرة من هذا الحجم إنما تتخللها, ولا يمكن إلا أن تتخللها, تجاوزات وأعمال جانبية غير مأمولة العواقب. وليس ثمة من شك أيضا أن الدولة هنا هي المؤتمن على حياة المواطنين وسلامة أملاكهم. لكن أن تذهب وزارة الداخلية مثلا, لحد إيقاف "تدفق المعونات", و"تعليق كل مساعدة غذائية على صعيد الجماعة القروية, الخنيشات", على ذات الخلفية, إنما هو سلوك مستهجن, ومشين وغير مسؤول, سيما لو تمت الإشارة إلى أن مدعاته كامنة في الفوضى التي أثارها "سراق بقر", و"مندسين", و"مثيري شغب", حركتهم أيادي لها مصلحة في ذلك, بارتباط وسياق انتخابات المجالس لصيف هذا العام, العام 2009. الدولة هنا, وهي العاجزة عن إيصال المعونة للمنكوبين, المتقاعسة في إنقاذهم, المتلكئة في زيارتهم, لربما بانتظار أو بسبب عدم زيارة رئيس الدولة لها, المحرفة لذات المعونة عن هدفها, والمكدسة للبشر بمركز فلاحي تجووزت مدة صلاحيته, هذه الدولة لم تتردد في التكشير عن أنيابها الكاسرة, عندما خرج الناس للتظاهر, ففرضت عليهم طوقا أمنيا "مشددا", ودفعت بالعشرات منهم أمام نيابة عامة, هي جزء من ذات الدولة, ومنعت عنهم ما خف, فما بالك بما ثقل, كما لو أنها تذهب طواعية بجهة ارتكاب جرم ضد بني بشر, ليس من بين ظهرانيهم ما يقدمون أو يؤخرون, أو لكأننا حقا وحقيقة بإزاء منطقة محتلة من لدن دولة أجنبية, تتقصد إخضاع العامة للحصار, بغرض تطويع الخاصة منهم, أو تعمل عنوة على معاقبة الأبناء ليتعظ الآباء, أو إرهاب من تسول له نفسه التطاول على الدولة, أو على بعض من فروعها. كنت أمني النفس أن تتحرك الدولة ولو لمرة واحدة, بكل أدواتها, وسبل تدخلها المركزية والإقليمية, لمعاضدة منطقة منكوبة, تتقاذف المياه الجارفة أبناءها وماشيتها وحقولها الفلاحية, على الأقل من باب المعاضدة المعنوية, بانتقال بعض مسؤوليها المركزيين أو الإقليميين لعين المكان. وكنت أمني الخاطر أن تنتبه الدولة لمنطقة طاولها الظلم والضيم لعقود طويلة, حتى بات الفقر خاصيتها الأساس, وأضحى الحرمان صفتها المميزة, وبات أبناؤها إما متسولون بالشوارع, أو جوعى, أو مرتكنين إلى مداخيل موسمية عاق, أو في أحسن الأحوال, بائعي قوة عمل بدائية, بضيعات شاسعة, يمتلكها إقطاعيون وجنرالات وذوو نفوذ وبرلمانيون...لا علاقة لهم بالمنطقة بالمرة. أما وأن الدولة إياها قد استنكفت عن معاضدة منطقة منكوبة, ورمت بأبنائها ولربما بعلية قومها بالمعتقلات, فإن هذا دليل على أن بالأمر حسابات, لربما لا يدركها المرء جيدا. إن الذي تشي به أحداث الخنيشات لبداية هذا الشهر, شهر فبراير من العام 2009, إنما يدل ويؤشر بالجملة والتفصيل, بالشكل كما بالمضمون, على ثلاثة أمور أساس, لا نرى أدنى حرج أو تحفظ, في تسطيرها هنا بالواضح الصريح: + الأول, أن الدولة إنما تعاملت مع ذات الأحداث من منطلق أطروحة المؤامرة, المؤامرة عليها وعلى "هيبتها", فأعملت القاعدة الأمنية في البطش المباشر, والتنكيل بقوة النار والحديد, ثم الزج بالناس في لامتناهيات التحقيقات, وأبناؤهم لربما لا يزال يتقاذفهم الماء. أية دولة هاته التي تترك مواطنيها عرضة للفناء, وعندما يعمدوا إلى الاحتجاج على سلوكها وتقاعسها, تعاقبهم بوقف المعونة, تطاردهم من بين الوحل, تدفع بهم أمام نائب عام لا يرحم, ثم تتوعدهم بالأسوء في حالة الارتداد؟ + الأمر الثاني, أن أحداث الخنيشات إنما نعتبرها وبكل المقاييس, القشة التي قصمت ظهر البعير, في علاقة ساكنة المنطقة بما يسمى النخب, المعين منها كما المنتخب سواء بسواء. لم يعد ثمة من أثر يذكر لأي نوع من أنواع الثقة, وإلا فقل لي من ذا الذي بمستطاعه بعد الأحداث, أن ينزل بالصيف المقبل, لمواجهة الجماهير ودعوتها للتصويت عليه, دونما أن تطرده, أو تشتمه, أو ترجمه بترسبات سيول فيضانات فبراير؟ + أما الأمر الثالث, فمفاده انفصام العلاقة, ونحوها نحو الطلاق المطلق, فيما يخص مبدأي الحق والواجب, كنه المواطنة, وصلب كل سلوك مدني متحضر. إن أحداث الخنيشات أبانت بالحجة والدليل, عن انفصام العلاقة بين الدولة وأهل الغرب, وإلا فما معنى أن يستمر هؤلاء في الانتماء لدولة تهملهم لعقود طويلة, تفرض عليهم ما شاءت من نخب فاسدة, تقمعهم وترهبهم, وتتهم بعضا من أبنائهم ب"سراق البقر", كما لو أننا حقا بإزاء غرب أمريكي كان, ذات زمن من الأزمان, يقتات على سرقة المواشي والأبقار؟ سألني الوالد, رحمه الله, ذات يوم: ما دور الدولة بالمغرب, إذا لم تقف بجانبنا أيام "الحزة والضيق" (وكان يعني سنين الجفاف, التي لطالما اكتوى بنارها, وكان "فلاحا" معدما), ولا تعيرنا اهتماما, إلا عندما يكون محصولنا الفلاحي حسنا؟ لم أجد لسؤاله جوابا, لكنه بادرني بخلاصة جد معبرة: "لتتركنا الدولة وحالنا, عندما يكون صبيب المحصول جيدا, ننتفع منه دون إتاوات ولا ضرائب, وعندما يكون ذات الصبيب ضعيفا أو منعدما, يؤتينا الخالق رزقا من عنده". قد يزايد علي البعض ركوب هذا الموقف أو ذاك, لكنه لا يستطيع, وأنا ابن المنطقة, ولا يزال لي من بين ظهراني مداشره ودواويره الوالدة وأختين, لا يستطيع أن يزايد علي حقيقة أن منطقة الغرب, باتت منذ مدة, تحن لفترة الحماية بالنصف الأول من القرن العشرين, حينما كان الفرنسيون يقيمون "العدل", أو بعضا منه, على الأقل لتغطية احتلالهم, وتجميل صورتهم. *باحث وأكاديمي من المغرب [email protected]