يناير بداية لعام جديد، وطي لأوجاع الأمس وإخفاقاته وغلق صفحاته، بداية عام يطل علينا فيه الأمل برداء جديد يحمل لنا رسائل جديدة مليئة بالتفاؤل واليقين أنه سيكون عام إنجاز وسعي وراء الأهداف والآمال. لكن يناير من العام 2015 كان بنكهة خاصة جدا، ووشم خالد في داخلي، وغصة في القلب، وذبحة في الصدر يصعب الشفاء منها بل يستحيل. في العاشر من يناير تلقيت أكبر صدمة وأكبر ضربة في الحياة؛ فقد إخوتي والدهم، وفقدت أمي شريك حياتها، ورفيق دربها، وعشرة عمرها، وأب أبنائها. فقدت زوجها الذي قضت معه أكثر من 50 سنة. أما أنا فقد فقدت أمانا ووطنا وقدوة وأملا ومؤنسا ورفيقا وحبيبا وسندا. كان أبي رجلا هادئا طيبا وقورا فكاهيا حبوبا ومحبوبا، مؤمنا بقضاء الله وقدره، عاشقا للحياة، صابرا ومتصبرا، معطاء، سخيا في مشاعره وفي حبه لأبنائه، كان يحب أبناءه حبا ليس له حدود؛ العالم في كفة وهم في الكفة الأخرى، إلا أن من يعرفه حق المعرفة يعرف بسهولة أني أقربهم إليه، حيث تربطني به علاقة متينة وقوية جدا؛ فقد كان يمثل الصديق الذي أحكي إليه أدق التفاصيل، حتى تلك التي تحكى للأمهات، وكان الحبيب الذي يفهمني من نبرة صوتي ونظرتي، كنت عينيه وكان القلب النابض فيّ، لم أرتو من حبه ولن أرتو، ورغم ذلك فقد أخذت من حبه ما جعلني أواجه صعاب الحياة حتى بعد وفاته، وأن أقف وقفة الفارس المغوار في مجابهة الأخطار، وأن أكون الابنة التي أراد والتي حاول جاهدا بناءها وأرجو أن أتوفق في ذلك. ما زلت أذكر والدي وهو يوقظني وأنا تلميذة، في الساعة السادسة صباحا بعد أن أعد براد الشاي الذي كان يضع فيه الكثير من الحب والحنان مما يعطيه طعما خاصا، براد لم أتذوق مثله منذ رحيله. ثم يرافقني وهو يعانقني إلى موقف الحافلة، ليطبع قبلة على جبيني خاتما إياها بدعوة خالصة تجعل يومي يمر في كامل أناقته وجماله. رحل والدي ورحلت الطمأنينة والسكينة، ورحلت الابتسامة الندية التي كانت تغنيني عن العالم، رحل الحضن الدافئ الذي يحميني من صقيع الأيام، ورحل الصديق الصدوق الذي يشاركني كأس الحنظل قبل نخب الليمون، فمن لم يعش صداقة الأب مات دون صديق حقيقي يكون سنده في الأيام العجاف، ومن لم يعش علاقة حب مع والده مات دون أن يعرف حقيقة الحب وروعته. رحيل والدي نهش داخلي، ذبح صدري، وأضاف عمرا إلى عمري، وزادني صمتا فوق صمتي، وأفقدني بوصلة الطريق، لم أعد أعرف أين أذهب بماذا أشعر أو إلى أين سأصل، رحيل والدي جعلني أكثر صبرا وأكثر صمودا، جعلني أقف وفي قلبي أحجار محطمة وآمال مفقودة وأهداف مبتورة.... الأب وطن يحمينا وجدار يسندنا، غيابه يكسرنا ويقص جناحينا ويجعلنا نكبر ونحن ما زلنا أطفالا. يا معشر الشباب، وأنتم في طريقكم لتحقيق أحلامكم وطموحاتكم والتخطيط لمستقبلكم والبحث عن حياتكم لا تنسوا أن تتمتعوا بحب آبائكم وأمهاتكم واشبعوا من أحضانهم، فلا تعرفون ماذا يمكن أن تفعل بكم الأيام بعد رحيلهم.