عندما كتب المأسوف على وفاته بيير بورديو **دراسته القيمة و الشيقة عن الهيمنة الذكورية قامت قيامة الحركات النسوية في فرنسا ،وثار جدل حقيقي حول ما تضمنه الكتاب من معطيات علمية ،وقد كان بمثابة صفعة قوية للمنافحات عن حقوق المرأة وللدعاة إلى مساواة حقيقية تغض الطرف عما هو جنسي و أنتروبولوجي و سوسيولوجي. "" ونظرا لأهمية هذه الدراسة سأحاول التذكير ببعض ما جاء فيها ، رغم أن قراءة بيير بورديو تتطلب زادا معرفيا كبيرا، والماما بكل مناحي العلوم الإنسانية من فلسفة و آداب و أنتروبولجيا و سوسيولوجيا و علم نفس. اتخذت الدراسة مجتمع أما زيغ القبائل بالجزائر ميدانا لها(1) ، كما اعتمدت على بعض المرجعيات الأدبية الخاصة بالحركة النسوية في العالم ، ونقصد اعتماد بورديو على الكاتبة الانجليزية الكبيرة فيرجينيا وولف،كما حاولت الدراسة اعتماد بعض الإحصائيات الدقيقة حول انعكاس الهيمنة الذكورية على الوضع الأسري بالمجتمع الغربي من خلال دراسات ميدانية عن الزواج و الطلاق ومن خلال رصد حركة بعض التيارت الشاذة من لوطيين و سحاقيات. الهيمنة الذكورية و المركزية الرجولية إن بيير بورديو لا يخفي في مقدمة الدراسة دهشته المتواصلة وهو يرى خضوع عالم اليوم لنظام العالم السائد في الأزمنة الغابرة ،بوجهاته الأحادية ووجهاته الممنوعة ، بإلزاماته و قوانينه ، ويمثل لهذا النظام في علاقاته المعقدة و امتيازاته ، بحركة السير لخمس دقائق بساحتي la bastille و la concorde بباريس .فالمركزية الرجولية التي تضع الرجل في موقع المركز و تضع المرأة في الهامش هي واقع ملموس يكشف عنه تشريح اللاشعور الجمعي للعديد من الشعوب المتوسطية . العنف الرمزي وعلاقات السلطة و الإنتاج في المجتمع العنف الرمزي هو عنف لطيف وغالبا ما يكون خفيا ومستترا و يظهر في علائق الإنتاج سواء منها البيولوجية كالإخصاب أو الاجتماعية(البيت، الحقل، المدرسة، المعمل) ،و تشكل الهيمنة الذكورية شكلا راقيا من أشكال العنف الرمزي ،ويعتبر استيعابها مدخلا أساسا في فهم بعض العلاقات الاجتماعية و السياسية الموجودة في المجتمع كالعلاقة بين السلطة و المثقف ، ورب العمل بالعامل ،فالتعارض بين المثقف و السلطة لا يمكن فهمه إلا في إطار الهيمنة الذكورية التي تخول للسلطة احتواء المثقف وإخضاعه لنظامها المهيمن ،و كذلك رب العمل ، فهو يمارس العنف الرمزي نفسه مع العامل .، لكنه عنف رمزي لطيف غير محسوس وغير مرئي حتى بالنسبة لضحاياه حسب تعبير بورديو. الهيمنة الذكورية معطى أنتروبولوجي يعتبر بورديو الهيمنة الذكرية معطى أنتروبولوجيا من خلال رصد البنى اللاواعية التي تحدث عنها زميله كلود ليفي ستروس (2) في أدبياته، فمعظم المجتمعات القديمة كانت تتبنى خيار هيمنة الرجل ، ويستدل بورديو بما يسمى بالتعارضات الكونية و الثقافية المحددة للعلاقة بين الرجل و المرأة ،و هي تعارضات تكشف عنها القوانين الطبيعية السائدة في الكون ، كما تبرزها الثقافة الشعبية للمجتمعات موضوع الدراسة –وما ينطبق على المجتمع القبائلي ينطبق على غيره من المجتمعات القريبة منه كمجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط-. التعارضات الطبيعية هي تعارضات تسستجيب للقوانين الطبيعية السائدة في الكون كالتعارض بين (فوق /تحت) ،(أمام/خلف)،(يمين /يسار)،(مستقيم /منحني)،(رطب/جاف)،(شديد/ رخو)،(منير/مظلم).ويمكن للقارئ أن يلاحظ كيف تنطبق هذه التعارضات على العلاقة بين الرجل المهيمن و المرأة المهيمن عليها ،خصوصا إذا تم إسقاطها على العلاقة الجنسية بين الرجل و المرأة ، إذ يتموقع الرجل دائما فوق المرأة في المعاشرة الجنسية الطبيعية .كما يمكن ملاحظة انطباق هذه التعارضات على بنية الجسد ( شكل الأعضاء التناسلية عند الرجل و المرأة (. التعارضات الثقافية تجد التعارضات الثقافية المختزنة في اللاوعي الجماعي صداها في العلاقة بين الرجل المهيمن و المرأة المهيمن عليها كالتعارض الموجود بين الماء و النار، وفي المجتمع القبائلي تعبير مجازي مفاده أن الرجال الفحول لهم القدرة على إخماد الحريق. الفحولة نبل تعتبر الفحولة شكلا من أشكال الهيمنة في المجتمع القبائلي و المجتمعات الشبيهة به ، كما تعد امتيازا ونبلا يخولان للرجل إظهار قوته و سلطته ،(طقوس ليلة الدخلة نموذجا) كما تعد في المقابل مأزقا حقيقيا ، لأن الرجل يكون مضطرا للحفاظ على فحولته طيلة حياته ،وفي حالة تضييعها يفقد جميع معاني الرجولة. فريجنيا وولف ونظرة المرأة للرجل تعد فيرجنييا وولف(3) رائدة الكتابة النسائية في العالم ، ويستعير بورديو في دراسته نظرة المرأة للرجل معتمدا في ذلك على روايتها الشهيرة "نزهة في المنارة"،وتعد هذه الرواية من أجمل أعمال فيرجينيا وولف على الإطلاق ، وفيها تكشف الكاتبة الانجليزية عن تفاصيل العلاقة بين الرجل المهيمن و المرأة المهيمن عليها ، فالرجل –مستر رمزي – يمثل الأب المستبد، وتمثل مسز رمزي أنقى صور التسامح الأنثوي،ويعلق بيير بورديو قائلا " إن الجدية و الصرامة التي يتمتع بهما مستر رمزي ليسا ناجمين عن نزعة أنانية ولكنهما استجابة طبيعية لمواصفات الرجولة وتأكيد لخيار الحب الأبوي الذي فهمه مستر رمزي جيدا برفضه لأشكال التسامح الأنثوية ". المرأة و العمل يذهب بورديو في كتابه إلى أن فهم مجالات العمل الخاصة بكل جنس يجد تفسيرا مقنعا داخل الهيمنة الذكورية ، في إطار تواصل خفي بين المؤسسات و اللاشعور، إذ يتمكن هذا الأخير من استبعاد ذكورة بعض الوظائف كما يلغي أنثوية البعض الآخر ،مما يفيد بأن هناك وظائفا لصيقة بالمرأة كالطبخ و الحلاقة والخياطة و تصميم الأزياء، كما أن هناك وظائفا تختص بالرجل كالتدريس و الهندسة و الميكانيك و النجارة و الصباغة وغيرها، رغم أن ابرز الأسماء العالمية في الطبخ و الحلاقة وتصميم الأزياء هي أسماء رجالية وهي استثناءات لا تبرر القاعدة .أما القاعدة العامة فهو أن نجد تعارضات من قبيل( طبيب/ممرضة)، (وزير/ سكرتيرة). انعكاسات عدم تحكيم الهيمنة الذكورية على المجتمع يذكر بيير بورديو أن نسبة 40 بالمائة من الزيجات في فرنسا بين منحدرين من القبائل انتهت بالفشل ، أي بالطلاق ، والسبب ناجم عن تجاوز الهيمنة الذكورية ، فالمرأة القبائلية أصبحت تحظى في فرنسا بكامل حقوقها ،كما أصبحت تحظى بكامل استقلالها المادي ، وهو وضع اثر في استقرار الأسرة بشكل يدعو إلى القلق ،مما يدل- بما لا يقبل أدنى مجال للشك-على أن خروج المرأة للعمل تاركة بيتها وأبناءها لا يأتي دائما بما تحمد عقباه .و ما يشهده المجتمع الغربي من نماء وتزايد مستمرين في جماعات الشواذ و السحاقيات إلا انحراف عن قوانين الهيمنة الذكورية و زيغ عن إلزامات اللاشعور الجمعي التي تفرض هيمنة الرجل وسيادته في البيت و العمل. الهوامش - * Pierre BOURDIEU، la domination masculine، édition du seuil ،collection liber1998. ** من أبرز المثقفين الفرنسيين في الربع الأخير من القرن العشرين ،توفي في 23 يناير سنة 2002عن سن تناهز 72 سنة ،عرف بالتزامه السياسي وبرصانته المعرفية شغل منصب مدير المعهد العالي للدرسات الاجتماعية . (1) يعلل بورديو اختياره لمجتمع أمازيغ القبائل ، لكونه من المجتمعات التي حافظت على الهيمنة الذكورية في حوض الأبيض المتوسط. (2) كلود ليفي ستروس أنتروبولوجي فرنسي ، عرفت اعمالة شهرة واسعة ،خصوصا سيرته الذاتية الأنتروبولوجية "المدارات الحزينة" والتي دون فيها رحلته إلى بعض القبائل البدائية في الأمازون، من رواد الأنتروبولوجية البنيوية. (3) فيرجينيا وولف كاتبة انجليزية شهيرة فازت بجائزة فيمينا الحياة السعيدة عن روايتها "نزهة في المنارة "، عرفت حياتها بالاضطراب النفسي الشديد ، ماتت منتحرة سنة 1941 بعد عمر حافل بالإبداع الأدبي.