قال الوزير السابق عبد الكريم ابنو عتيق، عضو مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية، إن "استراتيجية بوتين في بداية الحرب الروسية الأوكرانية اعتمدت على عنصر التفوق العسكري الشامل جيشا وعتادا، حيث سلك منذ البداية استراتيجية التهديد باستعمال الأسلحة النووية، دون تحديد طبيعتها"، مضيفا أنه "بعد توالي الحرب، اضطرت روسيا إلى مراجعة أوراقها انطلاقا من قراءة لمجريات المواجهة العسكرية". وأشار الوزير السابق، في مقال له بعنوان "الحرب الروسية الأوكرانية أو نهاية بعض البديهيات العسكرية"، إلى أن "الخلاصات الأولية التي وقف عندها عدد كبير من الخبراء تتمثل في الدور الكبير والمحوري لآليات الرصد والاستطلاع التكتيكي الخاصة باكتشاف المواقع في ظرف وجيز، خاصة من طرف أجهزة الرادارات وطائرات الدرون، مما أثر على فعالية بعض الأسلحة الروسية". وبعدما أوضح عضو مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية أن "الحرب الروسية الأوكرانية استطاعت تحطيم بعض القناعات التي كانت متداولة بقوة في الإعلام الغربي"، ختم مقاله بالتأكيد أن "بعض الأسلحة التي كانت مجرد دعامة ارتكاز تحولت، في هذه المواجهة، إلى عنصر فاعل تحكمت وما زالت في مجريات الحرب، ونعني هنا سلاح المدفعية". هذا نص المقال: استراتيجية بوتين في بداية الحرب اعتمدت على عنصر التفوق العسكري الشامل جيشا وعتادا، هكذا استطاعت روسيا في مستهل هجومها على أوكرانيا حشد أكثر من 190.000 جندي بالإضافة إلى 30.000 كانوا متمركزين في المناطق التي أصبحت خاضعة لسيطرة موسكو بعد حرب 2014، كما عبأت 5000 مركبة مدرعة و1500 دبابة. ولمنع الغرب من التدخل، سلك الرئيس "بوتين" منذ البداية استراتيجية التهديد باستعمال الأسلحة النووية، دون تحديد طبيعتها، هل كان يقصد سلاح الدمار الشامل أم الأسلحة النووية التكتيكية؟ يجب الإشارة هنا إلى أن كل الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية والأوروبية كانت تعتقد أن العاصمة "كييف" سيتم احتلالها بسرعة، وأن أوكرانيا ستختار مضطرة نهج أسلوب المقاومة المتفرقة بالابتعاد عن المواجهة العسكرية الكلاسيكية، نظرا لغياب التوازن بين الطرفين. انطلاقا من هذه القناعة التي كانت سائدة لدى دول المعسكر الغربي والتي تنطلق من أن روسيا تملك أسلحة تسمح لها بالوصول إلى أهدافها بدقة وبسرعة عالية، شرع حلفاء أوكرانيا في البداية بتزويدها بمعدات خفيفة، مثل الأسلحة المضادة للدبابات من نوع "ATGM Javelin" و"NLAW"، المعروفة باستعمالها من طرف فرق مصغرة لها علاقة بأسلوب حرب المقاومة المتفرقة. المفاجأة حسب المختصين في مجال الأسلحة، هي أن الصواريخ الروسية عالية الدقة "LES MISSILES DE HAUTE PRECISION" عرفت إخفاقات وصلت إلى 60%، مع العلم أن مثل هذه الصواريخ لها دور أساسي، نظرا لقدرتها على تحطيم الدفاعات الجوبة والمطارات العسكرية كما وقع إبان الهجوم على العراق، عندما استعانت الولاياتالمتحدةالأمريكية بمثلها لإضعاف القدرات العراقية قبل انطلاق الهجوم البري. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فالقيادات العسكرية الأوربية والأمريكية كانت مقتنعة بتفوق سلاح الجو الروسي الذي يملك طائرات مقاتلة تسمح لموسكو بإصابة الأهداف بسهولة مثل طائرة "هيلوكوبتر ka-52" التي يطلق عليها اسم "Alligator" (أليكتور)، أو المقاتلات "Su-35" و"Mig-35′′، إلا أن العكس هو الذي حصل، فجل هذه الطائرات لم تكن قادرة على حماية نفسها من الدفاعات الجوية الأوكرانية. هذه الأخيرة اعتمدت في البداية على أسلحة روسية محمولة مثل نوع "IGLA" قبل توصلها ب 1500 "Stringer FIM-92" المصنعة من طرف شركة "رايتون" الأمريكية، مما دفع موسكو إلى التخلي عن استعمال الغطاء الجوي بالرغم من دوره الفعال خلال المعارك الحربية. وجدير بالذكر هنا أن التحول الذي وقع في مسار هذه الحرب في نظر الملاحظين راجع كذلك إلى نتائج عملية إعادة الهيكلة التي عرفتها القوات الأوكرانية منذ سنة 2014، وذلك بالاستعانة بخبرات بعد الدول المنضوية تحت لواء حلف "الناتو"، بالإضافة إلى شن السلطات ما بين 2015 و2022 حملة استهدفت محاربة الرشوة في صفوف الجيش، لا سيما بعد ظهور مشاكل على مستوى تدبير المؤسسة العمومية للدفاع المعروفة "ايكروبدروبوم" (UKROBORONPROM). بعد توالي الحرب، اضطرت روسيا إلى مراجعة أوراقها انطلاقا من قراءة لمجريات المواجهة العسكرية؛ هكذا، فبعد استحالة إيجاد التفوق بواسطة السلاح الجوي، وجدت موسكو البديل في المقاربة التقليدية التي ترتكز على الاستعمال القوي للمدفعية، نظرا لتوفرها على عدد هائل من القطع يفوق بكثير كل ما تملكه دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، بحيث وصلت ضرباتها في بعض الأحيان إلى خمسين ألف طلقة، متجاوزة حسب المتتبعين أرقام سنوات بداية الأربعينات إبان الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أن هذه الضربات غالبا ما تبتعد عن أهدافها نظرا لفقدانها الدقة، إلا أنها تتوفر على قدرة هائلة على الهدم والدمار، غايتها خلق نوع من الرعب لدى المدنيين. هذه المتغيرات الجديدة في الحرب دفعت حلفاء أوكرانيا إلى تغيير مسار الدعم، وذلك بحثّها على الاستعمال الكثيف لسلاح المدفعية، مزودين "كييف" في البداية بأكثر من 300 قطعة مدفعية من نوع "M777′′ و"CAESAR M109′′ و"P2H2000′′ و"AHSKRAB" و"FH70′′، مع العلم أن المعدات العسكرية ذات الصنع الروسي التي كانت تتوفر عليها أوكرانيا أو تم جلبها من دول المعسكر الشرقي سابقا، لعبت هي الأخرى أدوارا أساسية في ما أطلق عليه بواقعة المدفعية. في هذه الفترة، قررت الولاياتالمتحدة تزويد أوكرانيا بصواريخ "هيرمارس" (HIMARS)، تبعتها ألمانيا ب "M 270′′، التي يصل مداها إلى 80 كلم، مما سمح باستهداف مناطق حساسة، لا سيما تلك التي توجد بها مخازن الذخيرة. وبالرغم من إلحاج "كييف" على ضرورة التوصل بمدفعية بعيدة المدى ما بين 140 كلم و300 كلم، مثل "ATACMS" القادرة على ضرب منشآت كالقناطر والبنيات الاستراتيجية، إلا أن واشنطن ترفض ذلك خوفا من الوصول إلى عمق الأراضي الروسية، مما سيدفع "بوتين" إلى اعتبار الولاياتالمتحدة طرفا مباشرا في الحرب. حلفاء أوكرانيا رفضوا كذلك مدها بالمدرعات ذات الصنع الأمريكي مثل "أبرامز" (ABRAMS)، أو الألمانية مثل "ليوبارد" (LEOPARD)، أو الفرنسية "لوكيرك" (LECLERC). وفي المقابل، أقنعوا بولونيا ودولة التشيك بتسلم أوكرانيا 300 دبابة "T72" من صنع روسي. ومعلوم أن القادة العسكريين لحلف الناتو يتابعون تفاصيل المعارك يوميا، هدفهم دراسة الوقائع الميدانية قصد تقديمها في شكل خلاصات أولية إلى صناع القرار في بلدانهم، خاصة تلك المتعلقة بالمقارنة بين أسلحة الدول الغربية، وأساسا الأمريكية، والأسلحة الروسية، هذا ما يفسر في نظرنا أحد الأسباب المضمرة لعدم تحمس الولاياتالمتحدةالأمريكية للدفع بمفاوضات بين الطرفين؛ فواشنطن كما أشرنا في مقالات سابقة تملك صناعة عسكرية متطورة، يهمها بالدرجة الأولى معرفة مدى قدرة أسلحتها على خلق التفوق الميداني، مما يسمح لها بالاستمرار في السيطرة على الأسواق بدون منافس قوي. وباستقراء واقعة الحرب بالمدفعية التي غيرت طبيعة المواجهة الروسية الأوكرانية، فإن الخلاصات الأولية التي وقف عندها عدد كبير من الخبراء تتمثل في الدور الكبير والمحوري لآليات الرصد والاستطلاع التكتيكي الخاصة باكتشاف المواقع في ظرف وجيز، خاصة من طرف أجهزة الرادارات وطائرات الدرون، مما أثر على فعالية بعض الأسلحة الروسية في هذا المجال مثل "2S19MTSA" أو "2A65MSTA-B"، كذلك طبيعة القنابل المصنعة في معامل حلفاء أوكرانيا، التي يعتبرها البعض ذات جودة عالية، في حين إن المعامل الروسية تعاني من بعض الخصاص في المواد المستعملة بفعل الحصار المضروب عليها من طرف الغرب، ومن ثم فهي تفتقر إلى جزء كبير من المواد الأولية الأساسية في صناعة الذخيرة، زد على هذا إشكالية البحث الدائم عن قطع الغيار التي يحتاجها سلاح المدفعية نظرا لكثرة الاستعمال، مما يدفع موسكو إلى التوجه نحو بلاروسيا أو كوريا الشمالية. لتأكيد ذلك تكفي الإشارة إلى بعض الأرقام؛ ففي ظرف 24 ساعة تتعرض المواقع الأوكرانية إلى 6500 طلقة نارية. بدورها "كييف" صرحت عن طريق نائب رئيس المخابرات العسكرية "VADMY SKIBITSKY" لأحد الجرائد البريطانية بأن أوكرانيا تقوم يوميا بإطلاق ما بين 5000 و6000 من قذائف المدفعية، بموازاة ذلك بعض الصواريخ تحظى بالمتابعة الدقيقة من طرف الأمريكيين، نظرا لدورها الفعال في تحصين المواقع، وكذلك قدرتها على اختراق بعض الأسواق الخارجية، بما فيها أسواق الدول التي تعتبر حليفة لواشنطن مثل تركيا، ونقصد هنا نظام الصواريخ "S-300′′ و"S-350" و"S-400′′، التي تستعملها موسكو خلال هذه الحرب لحماية بعض المنشآت الحساسة والاستراتيجية؛ نجاعة وفعالية هذا السلاح تحت المجهر مادام أنه يشكل عنصر توازن مهما في منظومة المنافسة الروسية الأمريكية. موضوع آخر يتابعه قادة جيوش الغرب، يشكل تهديدا حقيقيا لاستراتيجية حلف "الناتو"، نقصد هنا التخوف من نفاد السلاح والذخيرة من مخازن الدول الأعضاء في الحلف؛ هكذا فالولاياتالمتحدةالأمريكية كانت تملك قبل بداية الحرب الروسية الأوكرانية أكثر من ألف قطعة من نوع "M777′′، العشر من هذا السلاح تم تسليمه إلى أوكرانيا، فرنسا هي الأخرى منحت "كييف" 18 قطعة من مدفعية "سيزار"، أي ربع ما يتوفر عليه الجيش الفرنسي، دون أن ننسى النقص الحاصل في الذخيرة، فواشنطن زودت إلى حدود نونبر الماضي أوكرانيا بأكثر من 800.000 قذيفة، مما سيدفع البنتاغون إلى تقديم طلبات إلى المصانع المختصة قصد الرفع من وتيرة الإنتاج، وذلك في أفق الحفاظ على المخزون الأمريكي تحسبا لأي طوارئ محتملة. في حروب عديدة وبشكل لم يكن متوقعا من طرف القيادات العسكرية من قبل، قد تلعب بعض الأسلحة أدوارا حاسمة لقلب موازين الصراع على مستوى الميدان العسكري، وبما أن دراسة كل مواجهة حربية ضرورة ملحة تسمح للمختصين بالوقوف عند التفاصيل التي تساعدهم على إعادة النظر في كثير من البديهيات المهيمنة على العقيدة المرجعية قبل وضع الخطط القبلية، فالحرب الروسية الأوكرانية استطاعت من هذا المنظور تحطيم بعض القناعات التي كانت متداولة بقوة في الإعلام الغربي، مثل اقتراح فكرة فرض منطقة حظر الطيران. الدفع بهذا الاختيار ينم حسب الدارسين عن جهل كبير بالوضع في أوكرانيا، فهناك فرق شاسع بين القوة العسكرية المتواجدة في الميدان خلال حرب البوسنة سنة 1995، ثم ليبيا سنة 2011، وبين القوة العسكرية الروسية سنة 2022، فإرسال طائرات حربية من قبيل "رافال" أو "إف 15" أو "إف 16" أو "إف 18" يقتضي بالإضافة إلى تدريبات أولية قصد خلق التنسيق المطلوب جويا، التوفر على بنية تحتية من مطارات عسكرية وقواعد جوية، بالإضافة إلى ترسانة من الأسلحة والصواريخ والرادارات القادرة على حماية هذه الطائرات. الشيء نفسه حصل على مستوى تحديد دور القطاعات العسكرية القادرة على الصمود في وجه ما كان يعتبر أقوى الجيوش العسكرية في العالم، ونقصد هنا الجيش الروسي، فبعض الأسلحة التي كانت مجرد دعامة ارتكاز تحولت في هذه المواجهة إلى عنصر فاعل تحكمت وما زالت في مجريات الحرب، ونعني هنا سلاح المدفعية، هذا المعطى الذي سيعكف القادة العسكريون على دراسته بشكل عميق قد يغير من مجموعة من الثوابت التي كانت سائدة إلى اليوم، بل قد يؤدي في أفق السنوات العشر المقبلة إلى تحولات شبيهة بتلك التي حصلت على مستوى قطاع الجو عندما دخلت الطائرات المسيرة في منافسة قوية مع المقاتلات الحربية.