"أي نموذج لحكامة المالية العمومية في عالم متعدد الأزمات؟"، حول هذا السؤال تتمحور فعاليات الدورة الخامسة عشرة من المناظرة الدولية للمالية العمومية، التي افتُتحت الجمعة 16 دجنبر بمقر الخزينة العامة للمملكة بالرباط، بتنظيم من وزارة الاقتصاد والمالية، بشراكة مع "جمعية المؤسسة الدولية للمالية العمومية" (FONDAFIP)، وبدعم من المجلة الفرنسية للمالية العمومية (RFFP). أشغال المناظرة استُهلت بكلمات افتتاحية أمام حضور غفير من خبراء الاقتصاد والمال، فيما غيّبت الالتزامات الحكومية وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح، التي ألقى نور الدين بنسودة كلمتها بالنيابة عنها. وأشادت نادية فتاح بعامليْن يُنجحان أشغال هذا الحدث ويضمَنان استمراره؛ يتعلق الأمر ب"جودة المتدخلين والخبراء المشاركين في جلسات المناظرة ونقاشاتها، فضلا عن راهنية مواضيعها وإشكالياتها المطروحة للتداول والنقاش". وزيرة المالية شددت، في كلمتها، على سياق انعقاد الدورة ال15 لمناظرة المالية العمومية في أعقاب الأزمات التي عصفت بالعالم خلال السنوات الثلاث الماضية، موردة أنها "تتميز بالتعدد والتداخل الذي يزيد من صعوبة تعقيداتها"، ومؤكدة أن "العالم بمجرد تجاوزه نسبيا أزمة كوفيد-19 وجد نفسه وسط صدمات اقتصادية متتالية سببتها تداعيات الحرب في أوكرانيا، لاسيما إشكالية الأمن الغذائي وضغوط تضخمية متسارعة؛ وهو ما لم يدع أي وقت للتدارك". ولفتت الوزيرة انتباه الفاعلين الاقتصاديين إلى أن "الأزمات باختلاف مسبباتها تزيد من تقليص هوامش تحرك الدول وماليتها العمومية في إنعاش الاقتصاد وتحفيز الاستثمار وخلق فرص الشغل"، مستحضرة إستراتيجية المغرب في تعاطيه مع الظرفية الحالية من خلال "إجراءات مستعجَلة وأخرى استهدفت المديَيْن المتوسط والطويل". وخلصت المتحدثة إلى أن "ميثاق الاستثمار المصادق عليه يُراهَن عليه قصد تنويع الإنتاج، وتحسين مناخ الأعمال بالمملكة، معززا جاذبيتها الاقتصادية في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية"، قبل أن تختم بالقول: "العنصر البشري لا ينبغي أن يغيب عن صلب انشغالات الفاعلين في سعيهم إلى ضمان حكامة المالية العمومية، باعتباره محرّكا ومستفيدا في الآن ذاته". "موعد سنوي لا محيد عنه" نور الدين بنسودة، الخازن العام للمملكة، سجل من جانبه أن "إعادة التفكير في المالية العمومية في ضوء الأزمات المتلاحقة ليس بالمهمة السهلة"، موضحا أن "انعقاد المناظرة وجلساتها يندرج ضمن هذا الهدف؛ لأنها موعد سنوي لا محيد عنه بالنسبة لخبراء المالية العمومية والمختصين في حكامتها". وأكد بنسودة أن "هذه الدورة تسعى إلى نقاش نموذج حكامة المالية العمومية في عالم متعدد ومتداخل الأزمات، من خلال نظرة جديدة بعيدا عن الخطاب التبسيطي الدوغمائي"، لافتا، في تصريح إعلامي على هامش الحدث، إلى أن "أزمات القرن 21 تتميز بتسارعها في فترات زمنية متقاربة". "من أزمة وبائية إلى أزمة جيوسياسية، تحاول المناظرة نقاش إمكانية الوصول إلى حلول إستراتيجية تتعلق بالقرار الاقتصادي والمالي، وتدبير المالية العمومية بنجاعة وحكامة"، يؤكد الخازن العام للمملكة، مشيرا إلى أن "عددا من الدول ضخّت أموالا للحفاظ على القدرة الشرائية لمواطنيها ومقاولاتها، لكن وجب استحضار التوازنات الماكرو-اقتصادية والمالية". وختم بنسودة تصريحه بالتشديد على أهمية التكوين المستمر للموارد البشرية التي يرتكز عليها حسن التسيير والتدبير المالي، موصيا بالاستعانة بجديد الذكاء الاصطناعي والرقمنة. نموذج مالية عمومية "هش" من جهته، اعتبر ميشال بوفيي، رئيس "جمعية المنظمة الدولية للمالية العمومية"، ومدير المجلة الفرنسية للمالية العمومية، أننا "نعيش ضمن مجتمعات ارتفعت حدة الصدمات والمخاطر التي عانتها خلال فترة زمنية قصيرة"، موردا، فضلا عن تداعيات الوباء والحرب الأوكرانية، صدمات كبرى تتراكم وتتربص بالعالم وجب الالتفات إليها. تبعا لذلك، حذر الأكاديمي الفرنسي المتخصص في المالية العمومية من تراكم هذه الصدمات وتصاعد مخاطرها، واصفا المجتمع الراهن ب"مجتمع متعدد المخاطر Société multi-risques"، وزاد: "من أبرز أهداف المناظرة الدولية للمالية العمومية تحديد هذه المخاطر وحدة الصدمات واللايقين في مجالات الغذاء والمناخ والطاقة والماء في عالم يعيش مخاض الانتقال ويبدو غير قابل للتحكم". وخلص الأستاذ بجامعة "باريس 1" إلى أن "النموذج الحالي للتدبير والحكامة المالية العمومية يعاني هشاشة وعدم توازن عرّاه واقع الأزمات المتلاحقة"، محذرا من "تزايد مستوى اللايقين الذي تواجهه الدول في تخطيطها الاقتصادي". كما تخللت فعاليات الافتتاح، مساء الجمعة، كلمة مقتضبة ألقتْها مستشارة الشؤون الاقتصادية بسفارة فرنسا في المغرب، أبرزت من خلالها "متانة الروابط الاقتصادية التي تجمع باريس بالرباط"، آملةً أن يتقوى التعاون الثنائي بين البلدين في أفق "تجويد المالية العمومية". هذا بينما جرى تقديم تقارير تمهيدية، واستعراض شهادات كل من محمد توفيق ملين، المدير العام للمعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية، وجون أرتوي "Jean Arthuis" الوزير الأسبق للمالية والاقتصاد بفرنسا. وتتواصل طيلة يوم السبت 17 دجنبر الجاري أشغال المناظرة الدولية من خلال ثلاث موائد مستديرة تتدارس بالنقاش والتحليل محاور متعددة، بمشاركة فاعلين متخصصين وخبراء ومسؤولين سابقين، مغاربة وفرنسيين؛ فيما يُرتقب الاختتام بكلمة شكيب بنموسى، وزير التعليم رئيس لجنة النموذج التنموي. يشار إلى أن المحور الأول يتعلق بدور الفاعلين الرئيسيين في نموذج الحكامة المنشود، من خلال السلط التشريعية والتنفيذية ودور الجماعات الترابية بخصوص تنظيم القرار في مجال المالية العمومية؛ بينما المحور الثاني يعالج "إشكالية اتخاذ القرار من حيث تنظيم وتأطير تدبير المالية العمومية وآليات الحكامة ذات الصلة، والمرتبطة بنموذج البرمجة الميزانياتية والذكاء الاصطناعي وتقوية القدرات في مجال التقييم". ويتناول المحور الثالث الأفكار الرئيسية لتدبير أفضل للمالية العمومية، حول المفهوم الحديث لتوحيد نماذج المالية العمومية ومسؤولية المدبّرين الماليين العموميين وتأهيل الموارد البشرية.