ما يمكن استخلاصه من تأهل المنتخب المغربي للمربع الذهبي؛ أنه انتصار لم يأت من فراغ وليس ضربة حظ كما قد يعتقد البعض. والأكيد أن وصول أسود الأطلس لهذه الرتبة العليّة لم يكن صدفة، بل هو امتداد لأثر عمل معقلن ابتدأ منذ عقود مضت. بل إنه يعكس الدينامية التي يعرفها المغرب في ميادين شتى وكذا الحكامة في مجموعة من المجالات، ولعل الرياضة وكرة القدم على وجه التخصيص أحد أوجه تلك الحركية المستحدثة التي عرفتها المملكة المغربية منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش. وهي سياسة اهتمت بتطوير كرة القدم وفق استراتجية متوسطة وبعيدة المدى. حيث ابتدأت بتدشينه مؤسسة محمد السادس لكرة القدم سنة 2009م. والتي ضمت العديد من المصالح والمرافق الرياضية والصحية والتعليمية وملاعب كرة القدم. وهي الأكاديمية التي شكلت مشتلا لتأطير اللاعبين وصقل مواهبهم منذ سن مبكرة؛ حيث أنجبت مجموعة من اللاعبين الذين يمارسون في مجموعة من الدوريات المحلية والعربية والأوروبية. بل ساهم البعض منهم في إنجاز مونديال قطر 2022م؛ ومن بينهم عز الدين أوناحي ويوسف النصيري ونايف أكرد ورضا التكناوتي. كما أنّ المعهد الملكي لتكوين أطر الشبيبة والرياضة بالإضافة إلى أدواره المتعدّدة يسعى في شق منه إلى تأهيل وتكوين الطلبة في تخصصات دقيقة كالتسيير والحكامة الرياضية؛ من خلال تقوية المهارات الإدارية والميدانية، وكذا تمتيع الطلبة بالمعطيات القانونية المرتبطة بالعمليات التنظيمية للمؤسسات الرياضية، بالإضافة إلى معرفة وضبط الجوانب المالية، وكذا إدارة المشاريع، التنظيم والتسويق، التواصل وكيفية إدارة الموارد والمرافق والمنشآت الرياضية. كما يتوخى "مركب محمد السادس لكرة القدم" إلى تقديم خدمات حديثة ومتطورة؛ حيث يضم تجهيزات رياضية متقدمة على مستوى التدريب البدني والطب الرياضي، وكذا التدليك وتطوير اللياقة البدنية، وهو ما يجعله ملائما لمعاير الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، بالإضافة إلى تكوين المدربين وفق معايير عالمية. وفي مقابل هذه البنية التحتية التي اعتمدت على مقاربة رياضية شمولية توفر كل الإمكانات المتاحة لإعداد جيل من اللاعبين قادر على المنافسة. مقابل كل ذلك، هناك عمل قاعدي يتأسس على ديبلوماسية ناعمة ولغة تواصل مبنية على زرع الروح الوطنية في لاعبي مغاربة العالم. الذين آمنوا بفكرة حمل قميص الوطن الأم، رغم الإغراءات المالية والمعنوية التي تقدم إليهم من طرف مجموعة من الدول التي يقطنون بها للعب إليها. وقد نجحت تلك الديبلوماسية في تحبيب الفكرة لمجموعة من اللاعبين الذين يمارسون في أكبر الأندية العالمية والذين شكلوا العمود الفقري للمنتخب الوطني منذ سنوات. فالحكامة الناعمة التي تبناها المغرب، أعطت نتائجها في تكوين لاعبين ومدربين محليين. إذ استفاد المنتخب الوطني من كل ذلك؛ حيث نجد الإطار التقني المكلف بتدريب وإعداد المنتخب جميعهم مغاربة، بالإضافة إلى الطاقم الطبي والفريق المكلف بالتغذية والترويض. مما انعكس على أداء المنتخب في مونديال قطر الذي قدم عروضا أبهرت كل المحللين الرياضيين. حيث أبانوا عن براعة في الدفاع عن عرينهم، كما هم مهرة في تسجيل الأهداف وتحقيق الانتصار وإسعاد المغاربة وغير المغاربة سواء إفريقيا أو عربيا. فكانوا صناعا للفرجة والفرحة التي انعكست على محيا كل المغاربة داخل الوطن وخارجه. وظهر ذلك جليّا في خروج المغاربة عن بكرة أبيهم للاحتفال بهذا الفوز الكروي الأول من نوعه عربيا وإفريقيا، نساء ورجالا، شبابا وشيوخا فقراء وأغنياء. عبروا عن وطنية منقطعة النظير، كما بينوا حبّا صادقا للوطن وثوابته المتجذرة في وعيهم الجمعي. وهو احتفال تجاوز حدود الوطن إلى مختلف الدول العربية الشقيقة التي عرفت أكبر الاحتفالات التي صفقت لفوز الأسود وأظهرت وعبرت عن رابطة القومية والعقيدة والهدف المشترك التي تجمع هذه الأمة العربية التي اعتبرت التأهل ليس مغربيا بل عربيا. فكانت الصور معبرة في عفوية تشجيع كل العرب للمنتخب المغربي، كما فرحوا وارتدوا قميص المنتخب ورفعوا الراية المغربية التي وحدت وطنا بأكمله من المحيط إلى الخليج بمختلف روافده وتنوعه الثقافي. كما أبهر الجمهور المغربي العالم بتشجيعه للأسود في رقعة الميدان؛ حيث أضافوا مصطلحات مغربية قحة إلى قاموس كرة القدم، من قبيل سير سير، وديرو نية... الخ. لقد غدت الحكامة الرياضية وسيلة لتحقيق أهداف اقتصادية من خلال الاستثمار في العنصر البشري كدعامة أساسية لهذه الحكامة الناعمة التي بمكنتها خدمة الاقتصاد والثقافة في مستويات متعددة. فقد استطاع المنتخب المغربي في مدة وجيزة من تحريك عجلة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل سريع؛ حيث غدا اسم المغرب من أكثر الكلمات بحثا في وسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة اكتشافه والتعرف على حضارته المتأصلة، وثقافته الراقية المتعددة الروافد من عربية وأمازيغية وإفريقية وحسّانية. وبإمكان هذا الإنجاز ان يستثمر في تسويق المنتج الثقافي والقيم والعادات والتقاليد وطريقة العيش؛ من لباس وغذاء وهندسة معمارية. كما يمكن جذب السياح للتعرف على التراث الثقافي المغربي الغني في مستوياته المادية واللامادية. كل ذلك يعزز الهوية الوطنية والانتماء الجغرافي والعقدي للمغرب في محيطه العربي والإفريقي. تفوق الأسود إذن، عن جدارة واستحقاق وكفاءة أطره التقنية واحترافية لاعبيه وحكامة مسيري الرياضة المغربية.