حملت المشاركة المغربية الناجحة في كأس العالم لكرة القدم المنظم بقطر مكاسب جيو-إستراتيجية جمة تتجاوز الشق الرياضي، لتشمل الأبعاد الثقافية والحضارية والفنية والسياسية، مقدمة بذلك صورة مشرقة ومشرفة للمغرب والمغاربة، ومعززة القوة الناعمة المتصاعدة للبلاد ومكانتها الإقليمية والدولية. ورغم أن الجهد الأساسي بذله المنتخب الوطني، عبر بلوغه المربع الذهبي بقيادة المدرب المغربي وليد الركراكي، والروح القتالية العالية للاعبين، إلا أن المشاركة المغربية تمتعت أيضا بدعم ملكي وشعبي كبيرين (بما يشمل الجالية المغربية)، وإشراف الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم ورئيسها فوزي لقجع، وبمواكبة رسمية رفيعة المستوى، من وزير الخارجية ناصر بوريطة، ومدير الأمن الوطني عبد اللطيف الحموشي، ومدير الإدارة العامة للدراسات والمستندات ياسين المنصوري. دعم منقطع النظير حظي المنتخب المغربي منذ مبارياته الأولى بتعاطف وتشجيع واسع من الأشقاء المغاربيين (موريتانيا، الجزائر، تونس، ليبيا)، والعرب (فلسطين، مصر والأردن واليمن والعراق وسوريا وكافة دول الخليج)، وسائر البلدان الإسلامية، وبطبيعة الحال من الدول والشعوب الإفريقية. هذا الدعم الاستثنائي لم ينحصر في ملء مدرجات ملاعب الدوحة، وارتداء القميص الوطني وترديد الأهازيج والشعارات المغربية ("سير – سير – سير")، بل كان من خلف الشاشات أيضا بمختلف ربوع العالم وبجميع اللغات، وبرفع أكف الضراعة والدعاء إلى المولى عز وجل (يا رب). لقد حمل المغاربة مشعل وحلم الوحدة، وبعث الأمل في النفوس من جديد، خاصة في ظل سياق جد صعب تعاني من تبعاته كل الشعوب. لقد أقنع الأداء المتميز لكل من الجمهور والمنتخب المغربي الكثير من المعلقين والمحللين الرياضيين، بل وجلب اهتمام وتتبع أشهر المؤثرين في العالم، عربا وأجانب؛ ناهيك عن إنتاج آلاف المقاطع المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، حملت أغاني خاصة، وتقاسمت لحظات الفرحة من داخل البيوت والمقاهي والساحات والميادين، تهتف باسم المغرب. حضور استثنائي لعل الأرقام والإحصائيات التي ستصدر عن الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" ستضع الجمهور المغربي في طليعة الجماهير المساندة لفريقها ضمن مجريات كأس العالم "قطر 2022′′، وهو حضور لا نحصره في الكثافة والقوة العددية، وإنما ينبغي توجيه تحية عالية للروح الرياضية والوطنية واللوحات الإنسانية الراقية التي قدمها هذا الجمهور المتميز داخل الملاعب وخارجها، في انضباطه وإبداعه وقوة تأثيره. وفي هذا الإطار، أكدت الجالية المقيمة بالخارج، من جديد، على انتمائها المتجذر ومغربيتها المتأصلة ووطنيتها الراسخة، ليس فقط داخل مدرجات الملاعب، وإنما بمتابعة الأسر والأطفال مرتدين القميص الوطني وملتحفين العلم المغربي في مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا، مع خروجهم في مواكب احتفالية بعد نهاية المباريات. وكان الشعب المغربي، بكل مكوناته وأجياله، ذكورا وإناثا شيوخا وصغارا، في الموعد لمتابعة وتشجيع منتخبه خلف الشاشات داخل البيوت، أو الحصول على مقعد بالمقاهي (التي انتعشت وشهدت رواجا استثنائيا بالمناسبة خلال المباريات التي يخوضها المغرب). واكتملت هذه الملحمة بمواكب الاحتفال في ساحات المدن (الرباط والدار البيضاء ومراكش ووجدة وطنجة وبأقاليمنا الجنوبية الغالية (العيون والداخلة مثلا). وعذرا لجميع المدن والقرى التي لن نستطيع حصرها في هذا المقال، لكونه حدثا وطنيا شمل كافة ربوع المملكة. واكتملت صورة هذه الملحمة المغربية التاريخية بنزول الملك محمد السادس للشارع للاحتفال جنبا إلى جنب مع أبناء شعبه. وأيضا تقاسم معنا المهاجرون الأفارقة المقيمون بالمغرب الفرحة نفسها، في إشارة قوية وواضحة إلى اندماجهم التام في صفوف المجتمع المغربي. الهوية المغربية أحسن المغاربة بكل تأكيد استحضار وتمثيل وعرض مكونات ومقومات الهوية المغربية لفائدة الجمهور العربي والدولي، فقد كان الفن المغربي حاضرا في شوارع قطر وجنبات الملاعب (فن كناوة، والأهازيج الشعبية)، والمطبخ المغربي (الكسكس والطاجين)، والزي المغربي أيضا (القفطان)، وأسهم بعض الفنانين والمؤثرين والمواطنين في نجاح هذا الظهور. وبفضل هذا الإنجاز التاريخي تبدو الفرصة سانحة أمام الترويج للوجهة السياحية لمدن وقرى المغرب، ولمنتجات الصناعة التقليدية المغربية، والحفاظ على هذا الزخم الدولي للتعرف على مقومات الثقافة المغربية، مع وضع خطط مدروسة، واستثمار منهجي أفضل للفضاء الرقمي، وتوظيف واسع للتنوع اللغوي، بواسطة استخدام لغات أجنبية. كما أن سبل وآليات تطوير القوة الناعمة للمغرب تتطلب الحث على أهمية تأطير الإعلام الموازي، في عالم تصنع فيه الكلمة والصورة والمقاطع الصغيرة والتدوينات الرأي العام الوطني والدولي؛ وهو ما يستدعي توفير التأطير والتكوين لمجموعات متخصصة من المغردين والمدونين والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي. خلاصات وتوصيات -وضع الثقة في الأطر الوطنية، ليس فقط في الرياضة (المدرب)، وإنما في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والأكاديمية، ومنح الثقة للشباب والطاقات المغربية وعدم الانتقاص أو التشكيك من قدرات وطاقات البلاد. -لا ينبغي حصر مظاهر الروح الوطنية في ملاعب كرة القدم واحتفالات الساحات، وإنما إظهار التفاني لخدمة هذا الوطن في مختلف القطاعات والوظائف الحكومية والخاصة، وفي سلوكياتنا وتعاملاتنا اليومية مع بيئتنا ومدننا وقرانا. -"الملعب الحقيقي"، والمستمر لأطفالنا وتلاميذنا وطلبتنا، هو الأقسام والفصول داخل المدارس وفي قاعات الجامعات والمكتبات. ورغم حماس أجواء الفرح، إلا أن تسجيل حالات هدر ساعات دراسية، والتغيب عن بعض الحصص بدعوى متابعة المباريات، إشارة سلبية لابد من معالجتها وتقويمها تربويا وإعلاميا وأسريا.