من الصعب جدا الوقوف على السبب الذي يُهون على كرة القدم كل العراقيل لتؤثر في جل أطياف البشر على وجه البسيطة. ربما هي بساطة اللعبة بالنسبة لأطفال الفقراء، فلا يحتاجون معها غير كرة ذات ثمن بخس وأربعة أحجار للمرمى. أو يُحتمل على أنها أضحت تصغيرا وتعصيرا للمعارك الضارية التي كانت تسقَط بها عواصم لتُرفع بها أعلام الغزاة فاستُبدلت بلعبةٍ اتُّفِق على قواعدها، حلت محلها حتى صارت فرحة الانتصار في لقاء لكرة القدم تضاهي نشوة البطش بعدو شرس في ساحة الوغى، تحت شمس حارقة وبسلاح لم ينضب بعد من دماء الجيش المكسور. ولعل في الكلمات الملحمية التي يصف بها معلقو اللقاءات الكروية (انتصار مدوي، هزيمة نكراء، منتخبنا دك فريقهم، ليلة سقوط...) بعضٌ من دليل. في ظل التسليم بشبه استحالة جرد كل الأسباب الكامنة وراء شعبية كرة القدم العارمة وتأثيرها الباهر على العديد من المستويات، يقف المرء مشدوها أمام من يدخل في مرايا الانعكاس. ها هم الملوك والرؤساء والساسة بكل رتبهم يهنؤون الفائز منهم بحرارة، ما يزيد من متانة العلاقات بين الدول والأجهزة ويومئ إلى مصير بعض القرارات التي كانت معلقة أو شاب الأخذ بها شيء من التردد، خصوصا إذا كان المبادر من أمة لها جاه ومال عظيمين. أيضا، لا يُفلت الواقفون على بوابات العالم الافتراضي الفرصة للتعبير عن اصطفافهم وراء بلد دون الآخر، فيميلون بذلك على سوق المال والأعمال ميلة بملايين الدولارات من على ألواحهم الزجاجية، فتهوي بها أسهم بعض المساكين في رحى البورصة، ويشرق نجم آخرين ابتسم لهم الحظ فتملأ، في لمح البصر، حساباتهم المصرفية التي كانت متعطشة للسيولة أشد أنواع الظمأ. فمثلا حين بارك وزير خارجية أمريكا أنطوني بليكن فوز المغرب على البرتغال، وحين رفع الأمير تميم بن حمد علم المغرب مرتين من على المنصة الشرفية، وحين غرد إيلون ماسك، ملياردير الفضاء والعربات الكهربائية والأعصاب الإلكترونية، نشوةً بنفس الخبر، وحين روج جاك دورسي، مؤسس "تويتر"، للسياحة من مراكش في المناسبة نفسها، فلا تحسب أن هؤلاء الناس لا يدركون مدى تأثير حركاتهم وسكناتهم. المحير العجيب هو أن الفرح في اللحظة ذاتها عم فلسطين السليبة، وآخرين من أعدائهم على الضفة الأخرى، والكل يلوح بعلم المغرب! ما وجب تمحيصه تحت المجهر فعلا هو ردود أفعال اللاعبين المغاربة من أبناء المهجر. على أنهم نشؤوا في أقطار مختلفة جدا عن أصولهم، لا يزالوا متشبثين بقيم الأمازيغ والعرب. عقب كل فوز، يأخذ الفريق صورة تذكارية حاملا علمي فلسطينوقطر، في إشارة عفوية إلى ما يدور في دوائر الشعوب في المجالس غير الخفية في الداخل وفي الخارج. في مشهد آخر، هذا أشرف حكيمي، نجم مدينة الأنوار الذي تراقبه عيون فرنسية وإسبانية وألمانية أينما حل وارتحل، يتجه مباشرة بحثا عن أمه ليقبل جبينها في إشارة إلى مكانة الأم في المجتمع "الثالث". نفس الأمر فعله سفيان بوفال وأيوب الصابري. وهذا زكرياء أبو خلال يظهر مرات ومرات وهو يتلو القران الكريم بقلب خاشع. فما فتئ يصدر نحو ذلك من أقرانهم من أبناء الجيل الثالث من لاعبي كرة القدم ورياضاتٍ أخرى. ذلك في حين أن بلد ترعرعهم أمسى قاب قوسين أو أدنى من فقدان تصور العلاقة بين الأم ومن تجاوز السادسة عشرة سنة من أبنائها وبناتها. قيمة أخرى تتجلى واضحة في سماء قطر وهي تماسك ثوب الأسرة ومن خلاله نسج الجماعات. فذلك ما استُشف من تمرن ياسين بونو، الليث المبتسم، رفقة ابنه الصغير بقفازي الأول قبيل لقاء الفوز على برتغال كريسيانو بدقائق. أمر مشابه حدث مع الساحر الكرواتي لوكا مودريتش بعد الفوز على البرازيل العنيدة. ولن تُنسى أبدا كيف توجه أحد أبنائه بعنفوان الأطفال البريء ليواسي نجم السامبا نيمار بعد الهزيمة من منتخب والده لوكا. ولا يمكن أن تضيع هذه الفرصة دون التطرق إلى تبويء اللغة الأم قدرها الذي تستحقه أثناء الندوات الصحفية التي تطرح فيها أسئلة الاستغراب بألسنة مختلفة، أو عن التلويح بعلم فلسطين بعد كل فوز حققه فريق مسلم، في ظل نفور الجماهير العالمية، التي حلت على الدوحة، من الجحور الإعلامية الإسرائيلية المتطفلة على هذا الحدث الرياضي الكوني. أما مسك الختام، فهو لقيمة لا تقل نبلا، بل تفيض تمكينا، وهي الإيمان بقدرات الشخص الذاتية، إن كفَّت من الجودة ووفت طبعا. الإيمان بها كيفما كانت الظروف وأيا كان الند أو النديم. العبقري الحالم وليد الرݣراݣي يلقن ومازال، بمداد من "ݣرافين"، درسا راسخا لمُجايليه ولأجيالٍ من بعده من أبناء بلده الأم أولا، ولكل المستضعفين والنائلين من أنفسهم بصفة أعم. وليد يحلم ويخطط وينفذ وينجح ما شيئ له أن ينجح. جرب أن تتعامل مثلا وبشكل يومي مع العديد من الأجناس والجنسيات، من رُتب دنيا وعليا. لن تجد فرقا كبيرا بين هذه والآخر، إلا بقوة العزيمة والتواضع والانفتاح على الغير. حي إذن على "مسيد وليد"، فإنه يؤمن أنه ليس لزاما أن تقلد تقاليدهم حتى تتمكن من مقاليد النجاح. يمكن أن تصل وأنت كما أنت، بخلفيتك وتاريخك وأخطائك وحسناتك. وإلى جانب ترسيخ رغبة التعلم والإنجاز لدى القوم، وحتى تكتمل شروط الازدهار، نمني النفس بأن يُذلل ما أمكن من الصعابُ من لدن علية القوم من أصحاب الحل والعقد، حتى يبلغ كل مبتغاه ويحَقق بذلك الرخاء والنماء في كل ممشى ومسرب، وليس في كرة القدم أو العدو الريفي فقط. فشكرا لك أيها الهواء الذي تنفخ به الكرة الجلدية هاته التي تجن لها العقول وتخفق لها بعض القلوب حد توقفٍ في غير محله. فلولاكَ لما تنفسنا ولا تعلمنا.