في مثل هذا اليوم منذ سبعين سنة كانت مجموعة من المواطنين الوطنيين يبيتون لأمر كان من أهم وأخطر يوم في حياتهم حتى تلك اللحظة، ولم يكن الأمر خاصا بهؤلاء المواطنين، ولكن تجاوزهم إلى كل فرد من أفراد الأمة المغربية منذ تلك اللحظة إلى نهاية التاريخ ويرث الله الأرض ومن عليها، كان هؤلاء المواطنون قد آلوا على أنفسهم أن يصدعوا بأمر أبرموه وهيأوا إليه النفوس والأجواء، منذ أمد بعيد، كما أعدوا لهذا اليوم نفوسا مؤمنة بحق الشعب المغربي في الحياة الكريمة الحرة، ومع هذا الإعداد أعدت للأمر عدته الكاملة وما هذه العدة الكاملة، إلا التضحية ونكران الذات، وبيع النفس لله في تجارة رابحة لن تبور، وهي البذل والعطاء بذل المال وبذل النفس سخية راضية في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة، بذل النفس من أجل أن يكون المواطن حرا، وأن يكون الوطن حرا مستقلا، بذل النفس من أجل حماية العقيدة وصيانة الهوية من كل ما حاول ويحاول الأجنبي الدخيل أن يسمها به من بواعث التفرقة وإدخال إلى هذه الهوية ما رفضته وترفضه باستمرار وهو الانسلاخ عن ماضي الأمة وتاريخها، تاريخها كله الذي عرف فيه امازيغيه وعربيه كل في مجاله قبل ان يمتزجا بالأنفة والكرامة وعزة النفس الإنسان الأمازيغي الذي وجد في الإسلام ذاته الحقة في كل ما كان يعشقه من حرية وعدل وأمن وآمان، هذه القيم وغيرها كان عنصرا الأمة ومن أمتزج بهما بعد ذلك وانصهر في بوتقة هذه الأمة بهويتها الحقة وروافد هذه الهوية، إن القيم التي تجسدها الهوية الحقة لهذه الأمة هي التي كانت هذه المجموعة التي خرجت يوم 11 يناير 1944 وهي متدثرة بجلابيبها وسلاهيمها أو برانيسها اتقاء لصقيع يوم من أيام يناير التي تمتاز بشدة البرد، واستعدادا كذلك لما يمكن أن يؤول إليه الأمر من اعتقال وسجن ونفي وتشريد، وان كان هذا لم يحصل في نفس اليوم ولكنه لم يطل الزمان لحصوله بأشد ما كان متوقعا. في حادي عشر يناير يعيش الشعب المغربي الذكرى السبعين لهذا الحدث، ومن حق أولئك المواطنين والمواطنات اللذين صنعوا الحدث أن نتوجه إلى أرواحهم وإلى من بقي منهم بالاعتراف بالجميل والامتنان بما قدموه لوطنهم ومواطنيهم في مرحلة من أدق مراحل التاريخ المغربي. إن هذا اليوم يوم وطني بامتياز وإذا كان الفضل فيه لفصيل وطني معين فإن الأمر في واقعه وحقيقته يرجع إلى الأمة المغربية بكاملها، إذ كان الراعي والموجه هو قائد وملك التف حوله وحول عرشه كل المغاربة، ومن هنا كان حقا على الأمة كلها أن تعتبر الحدث حدثها لأنها تحملت متضامنة كل ما ترتب عن ذلك من تضحيات وما تطلبه الأمر من صبر واستماتة. وإحياء الذكرى السبعين لهذا الحدث يواكبه في هذه السنة إحياء الذكرى الثمانين من لدن الحركة الوطنية لحدث لا يقل أهمية ومكانة عن هذا الحدث إذ لولا ذلك العمل الذي حدث منذ ثمانين سنة ما كان لحدث اجتاز سبعين سنة من عمره أن يحدث. لقد كانت كتلة العمل الوطني عام 1934 مرحلة من المراحل التي أفضت إلى وثيقة المطالبة بالاستقلال وهما معا يعبران عن تلاقح وتساكن الأجيال في العمل الوطني وكل مرحلة تفضي للتي تليها وهكذا دواليك. إن تأسيس الكتلة والحزب الوطني وحزب الاستقلال إنما هي أسماء وعناوين في تاريخ نضال شعب من أجل الحرية والاستقلال والوحدة وصولا إلى بناء دولة ديمقراطية في ظل نظام ملكي دستوري يحقق للمواطن العيش الكريم من خلال التوزيع العادل للثروة الوطنية أو الدخل القومي مع التوازن الضروري بين الفئات والجهات وهو ما لا يزال النضال من أجله مسؤولية الجيل الحالي في الحركة الوطنية المغربية. وحديث الجمعة اليوم يتناول بعض مراحل من الطريق إلى حادي عشر يناير وهو مستخلص من عرض تقدمت به في ندوة بمدينة فاس نظمتها أكاديمية المملكة المغربية. ******** في سنة ألفين واثني عشر (2012) وبمناسبة الذكرى المائة لفرض الحماية على المغرب وتجزئته ومحاولة طمس معالم وحدته التي حافظ عليها مآت السنين، خصصنا عدة أحاديث الجمعة لهذه الذكرى و تناولنا فيها التعليق على كتاب السلطان المولى عبد الحفيظ، الذي حاول من خلال ذلك الكتاب "المخطوط" والمنسوب إليه أن يتحرر مما ينسب إليه من مسؤولية أو تقصير أثناء ثورته على أخيه المولى عبد العزيز وعندما أسندت إليه أمانة تدبير شؤون الدولة ووفق بيعة محددة المعالم والشروط، هذه الشروط التي كانت واضحة في غايتها ومبناها ومعناها وقد لخصها علال الفاسي رحمه الله في كتابه "الحركات الاستقلالية" وهو يتحدث عن تداول العلماء والأعيان أو ما يعبر عنه بأهل الحل والعقد في فاس فقال: ملكية دستور تعتبر البيعة الحفيظية التي كتبها بفاس وطنيون ممتازون، ووضع صيغتها السيد أحمد ابن المواز أحد رجال الفكر إذ ذاك – ميثاقا قوميا ودستوريا من الطراز الأول، وهي تشترط على الملك الجديد: أولا: أن يعمل جهده في استرجاع الجهات المقتطعة من الحدود المغربية ثانيا: أن يبادر بطرد الجنس المحتل من الأماكن التي احتلها ثالثا: أن يسعى جهده في إلغاء معاهدة الجزيرة لأنه لم يرجع للشعب فيها. رابعا: أن يعمل على إلغاء الامتيازات الأجنبية. خامسا: ألا يستشير الأجانب في شؤون الأمة. سادسا: ألا يبرم مع الأجانب عقودا سلمية أو تجارية إلا بعد استشارة الأمة. وهكذا تعتبر هذه البيعة عقدا بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة إلى ملكية مقيدة دستورية. فليس من حق السلطان منذ الآن أن يبرم أية معاهدة تجارية أو سلمية (مدنية أو اقتصادية) إلا بالرجوع للشعب ومصداقيته. وقد كتب الأستاذ علال الفاسي بعد كتاب الحركات الاستقلالية كتبا وفصولا شيقة في موضوع كفاح الشعب المغربي من أجل وضع دستور للبلاد يمكن الرجوع إليها وبالأخص في (حفريات عن الحركة الدستورية في المغرب قبل الحماية) و (الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها). التنصل من المسؤولية غير أن السلطان عندما فشل في تدبير الأمر حاول الرجوع إلى قرون مضت بناء على مراسلات لسلاطين سعديين وعلويين من قبله، ونسى أنه تولى المسؤولية لمعالجة ما أفرزته الأحداث التاريخية والاجتماعية التي سبقت توليه المسؤولية، والتصدي للظروف التي نشأت من خلالها الأزمة المغربية القائمة حينئذ، ولكنه عوض أن يقوم بما أنيط به من مسؤوليات اتجه توجها آخر غير ذلك، والذي أفضى إلى ما أفضى إليه من بعد ذلك ولا يمكن التعلل بأن الأمر لم يكن واضحا أمامه بالدرجة المطلوبة أو أنه لم يكن يتصور الأمر على ما هو عليه في الواقع. مجهود علمي تعبوي إن هذا مرفوض، إذ سبق المرحلة التي تولى فيها المسؤولية مجهود علمي وتعبوي ووطني منهم لأن النخبة المغربية التي لم يكن ما يجري في الشرق منذ أمد بعيد وقريب غائبا عنها وكذلك ما واجهه والده الحسن الأول من مكائد أجنبية ومحاولات متوالية قصد إيقاع المغرب تحت السيطرة الأجنبية، فهو يعرف ما حدث في القطر الجزائري المجاور وكذلك ما حدث في تونس وما كان يجري داخل نفوذ الدولة العثمانية وما يهيأ ويحضر له في المغرب، بل ان الأمر يتجاوز ذلك إلى ما قام به الملوك العلويون من قبل ومن عهد المولى إسماعيل حيث قام بمواجهة الأطماع الأوروبية في المغرب ومدنه وشواطئه فتبعه في ذلك حفيده محمد بن عبد الله استغلال الظرف والدين بل انتبه المولى سليمان إلى المخاطر الداخلية وحاول إصلاح الداخل قبل مواجهة الخارج، وفي هذا الصدد يقول علال الفاسي رحمه الله وهو يستعرض أطوار نشوء الوطنية المغربية في كتاب النقد الذاتي. «وانتبه السلطان مولاي سليمان لأصل الخطر الذي يوحد كثيرا من القبائل ضد الدولة، ونظرا لتدخل بعض المرابطين وأدعياء الصلاح فيما لا يعنيهم، واتخاذهم الدين ناموسا لاستغلال الجماهير وتسخيرهم ضدا على الملك وعلى مصالح الأمة، مستفيدين من الجهالة العامة التي وقعت فيها البادية المغربية، ولسبب فكرة الإمبراطورية التي غطت على حاسة الإصلاح الداخلي في الدول المغربية الكبرى –أيد السلطان مولاي سليمان دعوة "الوهابية" وأخذ ينشرها، فوضع النواة الطيبة لإصلاح فكري واجتماعي خطير. بعض مظاهر الخلل ولم يقتصر الأمر على ما قام به هؤلاء الملوك بل ان العلماء والنخبة من الشعب المغربي كانت بالمرصاد لهذا التآمر وفضحته بكل السبل والطرق وشخصت كذلك الداء الداخلي وبينت خطورته، ولاشك أنه قد اطلع على ذلك عبد الحفيظ وهو المولوع بالكتاب والعلم والثقافة السائدة في المرحلة ويشخص العلماء ومعهم نخبة المرحلة لهذه الأمراض التي يعاني منها المغرب قبل أن يتولى هو المسؤولية التي يمكن تلخيص بعض مظاهرها فيما يلي: 1 – الاستبداد بالرأي وانعدام الشورى في الأمور العامة بين الراعي والرعية إذ كان الحكام مستبدين بالرأي ويتصرفون وفق المزاج دون الاستناد إلى رأي عام قوي تقوده النخبة من العلماء والعقلاء في الأمة. 2 – احتلال الجزائر وفرض الهيمنة الاستعمارية الفرنسية عليه. ثم تونس من بعد وما استتبع ذلك من تفشي الجواسيس ومن يسعون لخدمة الأجنبي طمعا في الجاه والمال. 3 – ظهور نظام الحمايات الأجنبية وتفشيها بين الناس اذ سارع الكثيرون إلى الاحتماء بالأجنبي بذرائع مختلفة وأسباب واهية. 4 – أدى انعدام الشورى إلى شيوع أطماع القواد وكل من له رغبة في السيطرة إلى الثورة على الحكومة المركزية واتساع رقعة ما يسمى ببلاد السيبة. 5 – تكالب الدول الأوروبية على المغرب وتصميمها على القضاء على استقلاله وبالأخص فرنسا واسبانيا ورغم المجهود الذي بذله الحسن الأول كما مر ومحاولة التنسيق في السياسة الخارجية مع الدولة العثمانية فإن القناصل الأوروبية عارضت هذه الخطة وأجهضت توجهه نحو دعم سياسة الجامعة الإسلامية. العلماء في الميدان وإزاء هذا كله قام العلماء والعقلاء من الأمة بمقاومة هذا التردي بما يجب أن يقاوم به فكتبوا الكتب وعقدوا الاجتماعات وأصدروا الفتاوى كما كانت خطب الجمعة تقوم بدور تعبوي وتحريضي توجيهي في نفس الوقت ويتجلى ذلك في كثير من الإنتاج الفكري والأدبي والعلمي ذكر منه المؤرخون الكثير ومن بينهم البحاثة المرحوم محمد المنوني في كتابه (مظاهر يقظة المغرب) الذي أشار إلى مقاومة هذه الحمايات من طرف علماء المغرب، وقد حملوا راية معارضتها بروح إسلامية قوية، وحمية وطنية مثالية. الحدث الزلزال وعندما وقع المحظور وحدث الزلزال الذي هد كيان الأمة وفرضت الحماية انطلق الشعب في كل المدن والقرى في الجبال والسهول في مقاومة عارمة سجل فيها الشعب المغربي ما عرف عنه من المقاومة والبطولة وعشق للحرية والدفاع عنها بكل الوسائل معتمدا على رصيده الأصيل والذي وجد تأصيله الديني والشرعي في مشروعية المقاومة والجهاد التي يحض عليهما الدين الإسلامي وكان من أبرز مظاهر المقاومة ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي التي كانت باعثا ودافعا للشباب المغربي في المدن والقرى ليفكر في أسلوب جديد لتنظيم نفسه ومقاومة المستعمر، وكان يأمل أملا كبيرا في نجاح ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي بالأخص لأنها كانت متميزة عن غيرها من بقية الثورات الجهادية القائمة في جل المناطق الغربية. ولذلك فإن استسلام محمد بن عبد الكريم أمام تحالف الاستعمارين الفرنسي والاسباني ترك خيبة أمل عند المواطن المغربي وعند الشباب بصفة خاصة. خيبة الأمل وقد عبرت فئة طليعية من هذا الشباب عن الإحباط وخيبة الأمل في المطارحة الشعرية التالية بين المرحومين المختار السوسي وعلال الفاسي والمديني العلوي والتي أوردها المرحوم علال في ديوانه: بدأ الأخ المختار السوسي فقال: اليوم حق لشعبك الإحداد هذا مراد الله فيك، ومن ترى عهدي برأيك لا يفل، وماله قضي القضاء وفازت الفساد لقضائه المقضي – لا ينقاد في اليوم فلت حده الأوغاد ضاعت مقاصد أمة ترنو إلى العلياء إذ ضاعت بك الأسياد كنت الحياة لها ومسعد نجمها فاليوم لا نجم ولا إسعاد وقال الأخ المديني العلوي: كنت الممد لها بسر عزيمة فاليوم لا سر ولا إمداد وقال المختار: أسد عظيم منك يزأر دونها فيذاد عن أمواهها الوراد وقلت: إن الحياة تسللت من جسمها فتساقطت فوق الثرى الأجساد وقال المختار: فاليوم كيف تكون حال حياضها وقد اختفت في خيسها الآساد كنا نؤمل أن تتم خطوبنا بدفاعه، فإذا بها تزداد وقال المديني: عم المصاب بك المدائن والقرى وكذلك الأغوار والأنجاد وقلت: خطب ألم بأمة من أجله كل يرى أن توأد الأولاد وتسابلت عبراتها محمرة وتفطرت من أمرها الأكباد حتى الأوانس والولائد أعولت حتى الشيوخ ومن له الأوراد وقال المختار: ومن الذي تبقى دموع جفونه ورئيسنا وجنوده قد بادوا مدرسة مؤسسة وفي هذه المرحلة مرحلة ثورة محمد بن عبد الكريم تأسست مدرسة مهمة هي مدرسة الناصرية، وقد نشأت عن هيأة التدريس وشباب المدرسة جمعيتان أساسيتان إحداهما أدبية وأخرى سياسية يترأس الأولى المرحوم محمد المختار السوسي، ويترأس الثانية المرحوم علال الفاسي، وكان أعضاء الجمعيتين هم نفس الأعضاء الذين صاروا فيما بعد قادة للحركة الوطنية، وكان التأسيس لهاتين الجمعيتين في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، وقد انضم الى جماعة هذه المدينة تلامذة الثانوية الادريسية التي تأسست عام 1919 وكان هؤلاء التلاميذ يتلقون دروسا في اللغة العربية وكان مما قوى هذه الأواصر بين الطلبة في القرويين والثانوية الادريسية في المدرسة الناصرية وغيرها كون الشيخ محمد بن العربي العلوي أستاذا في الثانوية المذكورة. بلورة الهدف ويعتبر الأستاذ إبراهيم الكتاني ان تأسيس هذه الجمعية السياسية هي النواة الأولى للحركة الوطنية إذ قال في كلمته بمناسبة الاحتفال بالذكرى العشرين لعودة الزعيم علال الفاسي من المنفى وهو يتحدث عن هذه الجمعية وتأسيس الحركة الوطنية. وفي هذه الجماعة تبلورت أسس الحركة الوطنية المغربية التي هي: 1 – من الوجهة النظرية: المغربية، العروبة، والإسلام السلفي المتجدد، المنافي للجحود والجمود، والذي من مبادئه تنظيم الحكم على أساس الشورى، وضمان العدل والعدالة الاجتماعية لجميع المواطنين. 2 - ومن الوجهة العملية تنظيم الكفاح ضد المستعمر ومصارحته بالمقاومة هو ومن يتعاون معه ويخدم مصالحه، وتقبل كل تضحية في هذا السبيل برباطة جأش وراحة نفس. السلفية التحررية لقد كانت الأمور واضحة لدى هؤلاء السباب وهي تحرير الوطن وان شئت قلت تحرير الوطن وتحرير المواطن. وإذا كنت جعلت تحرير الإنسان في المقدمة فلأن العمل أساسا في البداية كان من أجل تحرير الإنسان من أسر الأغلال والتقاليد البالية ليكون مؤهلا من أجل لتحرير الوطن ومن هنا جاءت الحركة السلفية التي قامت بدور فعال من أجل الوصول إلى أن يغير الإنسان المغربي ما به من جمود وخمول وكسل عقلي وبدني ليتحرر من ربقة الاستعمار، لقد كانت السلفية تهدف إلى صياغة الذهنية المغربية صياغة جديدة تعيد إلى الإنسان ما كان لديه من حركة وقوة وإيمان صادق بالله وفهم جديد للقدر والتوكل ونبذ التواكل باسم التوكل، كانت سلفية قوية جديدة فاعلة مؤثرة كانت عامل دفع إلى الأمام وليست عامل دفع إلى الوراء، كانت بمثابة الوقود الذي حرك الآلة النفسية للإنسان المغربي نحو الهدف الأسمى لمعرفة الإسلام الحق كما هو، وهو ما أشار إليه الأستاذ الكتاني في حديثه عن الأهداف التي رسمتها الجماعة الأولى. الحركة و التنظيم وانطلقت الحركة للعمل وهي تسعى إلى غايتها وأهدافها واتخذت من أجل ذلك عدة طرق وأساليب نذكر من بينها: تنظم الجماهير المغربية في هيئة وطنية تعمل جاهدة من أجل جعل المغاربة يومنون بالوسائل التنظيمية الجديدة في شكل جمعيات وأحزاب وهو أمر لم يكن مألوفا ببلادنا في شكله الجديد وقد كان لفاس دور الريادة في تفعيل هذا العمل سواء 1926م المدرسة الناصرية وما تفرع عنها من جمعيات و في سنة 1930م في سنة 1934م كثلة العمل الوطني أو في 1936م و 1937م حين تأسيس الحزب الوطني أو الحركة القومية فالأهداف بقيت لدى الجميع هي نفس الأهداف. الحركة و المدارس الحرة إذا كان التنظيم هو لبنة أساس في العمل من أجل الحرية فإن المدرسة أساس من أجل تكوين ناشئة فاعلة ومؤثرة ومومنة بدينها ولغتها وهكذا عملت الحركة من أجل إصلاح التعليم بجامعة القرويين وهو ما تجاوب معه محمد الخامس طيب الله ثراه. الحركة والعمل الثقافي والإصلاح الاجتماعي ومواكبة للعمل الإصلاحي في المجال الديني تأسست لجنة لهذا الغرض حيث نجد المرحوم علال يخبر ذ. محمد داود في رسالة بهذا الموضوع مما جاء فيها: « ان علماء الشباب السلفيين قد وضعوا لجنة خاصة للقيام بخدمات جليلة في دائرة الإصلاح الديني، وقد بلغ عددهم نحو العشرين من هاذه المنطقة وسيخدمون أعمالهم في دائر السر والحكمة، وقد رشحوا حضرتكم في جملة الأفراد الذين يمكنهم أن يشاركوهم في عملهم الجليل، لما لكم من الجدارة العلمية والفكرية، ولما عرف عنكم من السوابق في خدمة السلفية ومناهجها، ولذلك فإني باسمهم أعلمكم بذلك، وأرجوا مصادقتكم على الانخراط في سلكهم، مع العلم بأنهم كلجنة سلفية لا يشتغلون بغير خدمة المجتمع المغربي الإسلامي من الوجهة الخلقية والدينية، وهم يعترفون من الوجهة السياسية بمبادئ كتلة العمل الوطني ويعتبرون الأشخاص الذين معهم منها كممثلين للفكرة السلفية وحريصين على اعتمادها في كل أعمال الكتلة. الحركة والاحتفال بعيد العرش وفي هذا السياق لعبت فاس دورا كبيرا في تفعيل الاحتفال بعيد العرش واتخاذ يوم 18 نونبر من كل سنة عيدا وطنيا يحتفل به وجعله رمزا للالتفاف حول محمد الخامس ملك البلاد ورمز السيادة والحداثة وقد جاء هذا التأسيس رد فعل على ما افتعلته فرنسا من أحداث أثناء زيارة محمد الخامس رحمه الله لمدينة فاس للوقيعة بينه وبين الحركة الوطنية الوليدة. تحرير المطالب لقد ذكر المرحوم محمد بن الحسن الوزاني كيف جاءت فكرة وضع المطالب ذلك أنه عقب توقيف صحيفة عمل الشعب اتصل بالإقامة العامة في الموضوع وعللوا سبب توقيف الصحيفة بأنهم كثرت عليهم المطالب ولم يعودوا يعرفون في الإقامة العامة ماذا يريد الموطنون المغاربة فقص عند رجوعه الأمر على قيادة الكتلة فتقرر وضع المطالب وتختلف رؤية الأستاذ أبو بكر القادري عن رواية ابن الحسن في الموضوع وان كان ظروف العمل والعناصر المساهمة فيها ترجح رواية أبي بكر القادري في الموضوع والمهم ان فاس لعبت كذلك دورا كبيرا في تحرير مطالب الشعب المغربي والمطالب المستعجلة التي وضعتها الحركة الوطنية وتقديمها إلى جلالة الملك والى إدارة الحماية بالمغرب. إمضاء العرائض وتنظيم المظاهرات كانت المظاهرات وكتابة العرائض وجمع التوقيعات حولها من ابرز الأنشطة التي قامت بها الحركة الوطنية وكان لفاس دور كبير في تفعيل هذا العمل سواء على مستوى المدينة أو على المستوى الوطني ويمكن الرجوع إلى ما كتبه زعماء الحركة في مذكراتهم حول هذا الموضوع لمعرفة دور هذه العرائض وخطورتها في العمل الذي قامت به الحركة الوطنية المغربية. وثيقة معبرة لقد أفضى واقع النضال والجهاد الذي استمر منذ الحماية بل قبل الحماية لدرء الخطر الأجنبي الذي يهدد المغرب إلى تنظيم حركة وطنية شبابية عصرية تضم كل الفئات من الشعب المغربي ووجدت من الشباب وقادة الرأي نخبة صالحة مومنة ومضحية في سبيل العقيدة والمبدأ وهي التي وجدت كذلك في ملك البلاد محمد الخامس قائدا وطنيا مومنا ومخلصا ومتعشقا للإصلاح والحرية فانتهى أمر هذا العمل الجماعي إلى عمل جماعي كذلك برز في وثيقة 11 يناير 1944، والتي شخصت في الحيثيات التي قدمت للوثيقة ما سيكون المغرب من خصائص ومن نقص في الإصلاح والتنمية والبناء وما لا يمكن للمستعمر أن يقوم به أو أن ينجزه وقرر من حينها إعلان استغلال المغرب، والتمست من جلالة الملك رعاية الإصلاح والاستقلال بإنشاء ملكية دستورية تحدد الحقوق والواجبات وصيانة الاستقلال والوحدة الترابية للمغرب. *أستاذ الفكر الإسلامي