يبلغ عدد المسلمين في برلين وحدها ما بين 250000 و300000 نسمة، وهذا العدد في تزايد مستمر من خلال مواليد الأسر المسلمة، المهاجرين واللاجئين. كما يصل عدد مساجد المدينة إلى 100 أو يزيد وحوالي نصف هذا العدد من المنظمات والجمعيات الإسلامية. وعلى الرغم من وجود هذه المراكز الإسلامية (الثقافية) ونشاطاتها المتمثلة في دروس الوعظ والإرشاد، المحاضرات الدينية والاجتماعية، عقود الزواج، الطلاق، الاستشارات الأسرية، هواتف مرافقة المشرفين على الموت والرقية الشرعية، وغير هذا، فإننا لا نلاقي ما يقابلها من النشاطات الفنية والثقافية الأدبية الموجه تحديدا إلى هذه الأعداد البشرية من المسلمين. ففي أبعد الحالات يتم تنظيم نشاطات من قبل إحدى الجمعيات، مثل مباراة في كرة القدم أو نزهة أو رحلة إلى أحد المنتزهات أو معرض سنوي يشارك فيه بعض الأعضاء من جمعيات أو منظمات أخرى من أجل الدعاية لنشاطاتهم وممثلين مسلمين لشركات خدمات الاتصالات الهاتفية، الكهرباء والغاز بغرض كسب مشاركين جدد للشركات التي يمثلونها، وأيضا تنظيم أسواق عابرة متفرقة هنا وهناك لتبادل أو بيع وشراء ما زاد على حاجة الأسر من الأدوات المنزلية، وخاصة ملابس الأطفال، (سوق البالي) أو التخلص منها، يتخلل هذه الملتقيات شيء من الترفيه للأطفال كاللعب ومسابقات في الثقافة الدينية العامة، أو تنظيم لقاءات في فصل الصيف لشواء اللحم، والأكل والشرب، وإجراء لقاءات عائلية محدودة النطاق. إلا أن هذه المبادرات الأحادية نجدها في الغالب لا تتم عبر تنسيق عمل مشترك بين هذه المنظمات والجمعيات ولو على هذا المستوى الأسري والديني. وهذه الوضعية في برلين لا تختلف عنها في أغلب المدن الألمانية الأخرى. فالوعي بالفعل الثقافي والفني الذي يمكنه أن يلعب دورا هاما في تحسين صورة وسمعة المسلمين الضبابية في هذه البلاد، غير ملموس. "إن أمام المسلمين في ألمانيا، وفي برلين خاصة"، يقول عبد العظيم كاموس، الرئيس المؤسس لمؤسسة "وقف الإسلام في ألمانيا" (Stiftung Islam in Deutschland)، الكثير مما يجب "القيام به والعديد من ورش بناء جسور بيننا وبين المواطنين غير المسلمين، من أجل تقريب الرؤى وسد ثغرات سوء الفهم المهيمنة في كثير من الميادين". هناك فعلا كثير من الأحكام المسبقة التي تخيم على جو التعايش بين المسلمين ومواطنيهم الألمانيين، المتمثلة غالبا في تلك الصورة العدائية التي ورثتها المجتمعات الغربية والشرقية على السواء منذ الحروب الصليبية مرورا من مراحل الاستعمار، والتي جعلت الشك والريبة وسوء الفهم ينتج إطلاق مفاهيم وتصورات عامة ومستعجلة من جهة كلا الطرفين الغربي والشرقي وتعميمها على إنسان المجتمع الآخر. كما أن للإعلام دورا كبيرا في تعميق هذه الصورة وتعميق الهوة والتباعد بين الثقافتين الشرقية والغربية من خلال التركيز على الصور السلبية التي تلاحق المسلم، مثل منظمة القاعدة و11 شتنبر وهجومات الانتحاريين (داعش وطالبان). هذه الصور التي يروجها بعض الإعلاميين بدافع السبق الإعلامي وإثارة المواضيع الغرائبية دون أي اهتمام بالبحث في كنه الموضوع وتمحيصه، تساهم بشكل مؤثر في شحن الأحاسيس وأسلوب التفكير ضد المسلمين بصورة عامة، ويدعمها للأسف سلوك جانب من المسلمين الذين يعكسون هم الآخرون نماذج سلبية في المجتمع الألماني. فيكون من نتائج هذه الصور الإعلامية التي لها سلطة الانتشار بسرعة والممارسات السلوكية لهذه الفئة من المسلمين، عواقب شك وخوف وارتياب تفقد الطرفين المسلم وغير المسلم الرغبة في الاهتمام والتعرف على الآخر، حياته وتصوراته ومفاهيمه، تفكيره ومعتقداته وعاداته، وأيضا عدم العمل في الغالب على خلفيات هويته الثقافية والدينية في إطارها الموضوعي. من أجل المساهمة في تصحيح هذه الصورة ثقافيا وفنيا، دعا المهندس الميكانيكي خطيب الجمعة المغربي عبد العظيم كاموس، الذي صدر له كتاب باللغة الألمانية عام 2018 بعنوان "من يملك الإسلام؟" عن دار النشر الألمانية "dtv"، وفي إطار مؤسسته "وقف الإسلام في ألمانيا"، إلى مسرح لدمى الأطفال كخطوة أولى من أجل العمل على مخاطبة الأجيال القادمة بلغة التحفيز على النظر إلى الآخر كمواطن متساو في الحقوق والواجبات لا كغريب مرتاب في هويته. وقد افتتح نشاطه المسرحي بعمل "كيف أصبحت الفئران أصدقاء؟" من تأليف جنين يالا وبربارا بن سليمان، وإخراج إدريس الجاي. إنها حكاية ثلاثة أسر من الفئران، تهاجر الأولى من وطنها تحت عوامل الجفاف وضيق العيش رغم تخوفها من العالم الجديد الذي لها صورة قاتمة وحذرة عنه، أملا في حياة أفضل. وحين تصل العائلة المهاجرة بعد عناء سفر شديد إلى الضواحي، يُنظر إليها كغريب بشيء من الريبة والحذر، وبسؤال: ماذا يفعل هؤلاء الغرباء هنا؟ لكن سرعان ما تدرك كلتا العائلتين، القادمة والمقيمة، أن الخوف ليس من العائلة الأخرى، بل من القط لوسيفا (اسم الشيطان الأكبر الذي تمرد على إله في المسيحية)، وهو هنا رمز الشر، ومن المطر الغزير، الذي يهدد جحور الأسرتين على السواء. في خضم هذه الأزمة تقصد العائلتان أسرة ثالثة للاستغاثة بها في هذه النائبة مع كل التحفظات والأحكام المسبقة حول هذه العائلة، والخوف والشك اللذين كونتهما هذه الأخيرة هي الأخرى عن العائلتين المستجيرتين بها. في الأخير وبتضامن العائلات الثلاث، يتم التغلب على القط لوتسيفا وإجلاؤه من المنطقة، وتنجو العائلات في نهاية سعيدة من طوفان الماء. لقد استلهمت المؤلفتان شخصيات المسرحية من حكايات العداوة الأزلية بين القطط والفئران كما تعود الأطفال على مشاهدتها في سلسلة الأفلام القديمة والمتجددة لعالم ديزني "توم وجيري"، كما حاولت المسرحية، بأسلوب شعري، أن تبسط أمام الأطفال صراع الأديان الإبراهيمية الثلاثة المبني على جهل المنتمين إليها بغيرهم. فحتى وإن كانت هذه المسرحية للصغار، فإنها تحمل في خطابها رسالة إلى كل فئات المجتمع، حيث إن تفكير الأطفال ما هو إلا مرآة لتفكير أوليائهم. فموضوع مسرحية الفئران، هو موضوع المجتمع الغربي الراهن ويعني الكبار بالدرجة الأولى، فهم في المسرحية من يحذرون أبناءهم من الاحتكاك بالآخرين ويصورونهم بالخطرين والذين لا يمكن الشعور بالأمان إلى جانبهم، بينما الأطفال يستغربون تصورات وآراء أوليائهم، حيث يقول كل طفل من هذه الأسر وهو يسمع تحذير أبويه: "أليست الفئران هي نفسها حتى وإن بدت مختلفة في الشكل؟". في هذا العمل تظهر مواقف الأطفال أكثر تقبلا للآخر وأكثر جرأة في الدفاع عن الغريب، بينما تختلف آراء الآباء؛ فنجد في الأسرة نفسها تشدد الأب ضد الغرباء نظرا لجهله بهم وعدم الاحتكاك بهم مع اجترار ما يتلقاه من وسائل الإعلام، بينما الأم أكثر تفتحا وتدعو زوجها إلى التعرف عليهم أولا قبل إصدار أحكامه الجاهزة. كما أننا نلاقي الأم المهاجرة تعيب على هذا المجتمع الذي هاجرت إليه مع أسرتها طريقة لباسهم غير المحتشم وحياتهم الغريبة رغم أنها لا تعرف عنها إلا اليسير، لذلك تحذر هي الأخرى ابنها من اللعب ومخالطة أبناء الآخرين. في حين إن الأب في الأسرة الثالثة لا يرى مبررا لقدوم هؤلاء الغرباء، سواء كانوا من الخارج أو الداخل، وهنا إشارة بالمناسبة إلى تلك الحزازات التي مازالت حتى اليوم وبعد 32 سنة من توحيد ألمانيا موجود بين الألمان الغربيين والشرقيين؛ إذ يرى الغربيون أن الشرقيين متخلفون ويعيشون على حسابهم اقتصاديا. في نهاية العمل يتم إعطاء الأم المهاجرة بسبب الجفاف والمجاعة والأب الفنان دور المنقذين من خطر القط لوسفا المؤقت. والأطفال الفئران يشكلون رابطة صداقة تفهم الآباء أن الفأر هو نفسه حتى ولو بدا في شكل آخر. من أجل ربط المشاهد وتبسيط الخطاب المسرحي، اعتمدت الكاتبتان جنين يالا وباربرا سليمان شخصية الراوي كهمزة وصل بين المشاهد لتوضيح تطورات مسار المسرحية في علاقتها بالتحولات المكانية والزمانية. كما اعتمد المخرج ادريس الجاي على توظيف تقنية الفيلم والصور كخلفية للمشاهد وعلى استغلال كل مجالات الخشبة، سواء الركح أو الستائر الجانبية أو سطح الخشبة، من أجل خلق فوارق مكانية وزمانية في مسار العمل المسرحي. "إن هذه التجربة التي أخوض للمرة الثانية خلال هذه السنتين،" يقول المخرج والحكواتي المغربي ادريس الجاي، "لا تختلف عن مسرح الكبار، سواء من ناحية الإعداد أو من ناحية التدريبات. فالعمل مع محركي الدمى يتطلب التهييء نفسه ودراسة بُعد الشخصيات وسيرتها الذاتية، فهي شخصية نحتتها المؤلفتان من الواقع المعاش، لذا فهي تحتاج إلى تحليل من كل جوانبها الفنية والدرامية. فالدمية ما هي إلا امتداد لشخصية محركها وتتحرك من خلال أحاسيسه وانفعالاته وتعكس مرونته أو توتره، وعبر الصوت تصبح شخصية حية فوق الركح". لقد تم دعم تجربة هذا المسرح الإسلامي الأول في ألمانيا لدمى الأطفال ماديا من طرف مجلس الشيوخ لولاية برلين، كما ساهم أيضا في دعمه "المجمع العالمي للأوقاف الإسلامية للتعليم والثقافة، إيمانا من هذه الجهات بأن الاستثمار في ثقافة الطفل هو استثمار في المستقبل، حيث يتم إعداد وتهييء جمهور الغد، وتعويده على تذوق الفن والثقافة. لقد شغل موضوع الطفل في السنوات العشر الأخيرة الحقل الثقافي والفني، مما زاد من الاهتمام بمجاله بشكل مكثف لضمان جمهور مستقبلي للقاعات المسرحية والمعارض ودور السينما والنشاطات الثقافية عامة؛ فقد عرض عمل الأطفال هذا "كيف أصبحت الفئران أصدقاء؟" في نسخته الأولى خمسين مرة في برلين وحدها ما بين شهري يوليوز ودجنبر من السنة الماضية. وهذه السنة، تلقى دعما جديدا من الجهات الممولة نفسها، وسيتم عرضه في نسخة منقحة جديدة للكاتبة نفسها وبإخراج جديد للمخرج ذاته خمسين مرة أخرى، من شهر شتنبر إلى نهاية سنة 2022، في رياض الأطفال والمدارس والثانويات والمراكز الثقافية.