يتم دائمًا تقييم الرأسمالية مقابل الأحلام. اليوتوبيا حلم. لا وجود لها (راش ليمبو). هذه هي الصحراء ما بعد الحداثة التي يسكنها أناس، في الواقع، يستهلكون أنفسهم في شكل صور وتجريدات يتم من خلالها تكرار رغباتهم وإحساسهم بالهوية والذكريات ثم بيعها لهم مرة أخرى كمنتجات (لاري ماكافري). 1 يتميز العقل الرأسمالي عن باقي المنظورات الاقطاعية الكلاسيكية الأخرى بكونه يستنفد كل قياساته من التطورات المرحلية التي يستقيها من فعل "الثروة"، حيث يستثمر في توسيع نطاق وجوده المادي دونما تحيز لفعل النقيض، ما يشكل سؤالا للنظر في علاقة تشيئ العقل العلمي وتوسيع قابلياته، لأن يكون "بوصلة للثروة التي تنتقيها الأمم في مرحلة التشكل الحضاري"، بحسب مفهوم الفيلسوف الأخلاقي عالم الاقتصاد الأسكتلندي آدم سميث. ولا نجد هنا أي تقيد بخلاصات التحقق من جواز تعزيز المبادرة الفردية، والمنافسة، وحرية التجارة، بوصفها الوسيلة الفضلى لتحقيق أكبر قدر من الثروة والسعادة، مادام الكائن الراهن يواجه معضلة قصوى في تحديد إثارة قوة الثروة إزاء أبعاد السعادة وانفعالها بالوجود. فكم من الثروة سنحتاج لنكون أحرارا في اختياراتنا وطريقة تحفيزنا للوجود، دون ملامسة جوهر الوسائل الفضلى، التي تمنحنا فكرا يوجه انفعالنا ذاك، المنذور للاستدامة والتصميم الواعي بالزمن والسيرورة. ومن المقروءات التاريخية المعلومة أن العقل العلمي الحداثي لم يخترع الرأسمالية التي سبقته، بل إن ثمة ما يعيق احتضانه للقيم وارتقاءه بها، هو من محصلات الاستنزاف، الذي داهن مرحلة عميقة من الصراع بين الأخلاق والرأسمالية. وهو ما يثري لحظة الاعتراف المسبق، كون هذه الأخيرة تمارس، ولا تزال، فكرة الإقصاء والتحييد، ومحاربة العقل الإنساني (الميتافيزيقي)؟ إننا لا نحيد عن الصواب عند اعتقادنا بوجود الرأسمال المنزوع من "العيش الإنساني"، الذي يوفر هامشا من التجلي في قوة "التشبيك"، و"الوحدة" و"التكامل"، والذي يشكل هامشا استثنائيا لتأمين "الرخاء" وتحقيق "الثروة الآمنة". هل ينفعل هذا النظر في الاقتصاديات الحديثة بما هو "منظومة سلعية" تعتلق بين سياسات تفرضها زعامات رأسمالية متوحشة؟ أم ترى سيتغير العالم الجديد بتكريس منظومة تمشي على نظرية أكثر شمولية، يشد إلى موثقها مدارا أكثر توحشا وانتقامية، خصوصا بعد انفكاك عقد "التوازن" بين "مكونات الغرب"، في حرب روسيا على أوكرانيا، واندحار جدرانيات (شرق/غرب) و(جنوب/جنوب)، واستحالة استمرار أوضاع الثروات المقبوضة باستعارات استعمارية عفى عليها الزمن، وصارت في قبو مليء بالأفاعي وأخواتها من الحيوانات السامة والمحشوة بمتفجرات لا قبل للإنسانية بها، منذ اللحظة التي اجتاح فيها الروس جارتهم أوكرانيا، التي ظلت إلى حين شهوة الدب الاتحادي، المتجافي والمستعر بنيران الماضي والأمس القريب؟ 2 العقول البشرية المتوحشة هي التي تنتج الرأسمالية المتوحشة. وهي التي تطور الآليات والدوافع المادية وغير المادية لتفكيك بنية مجتمع السلم، وجعله تبيعا استهلاكيا نمطيا مأمورا. منظومة "قوة تراكم الرأسمال"، التي تستثمر في الانهاك والسطوة وجني الأرباح ومضاعفة الثروات، والتمكين من جعل السلطة الاقتصادية والسياسية أداة للحكم، هي الحقيقة المطلقة، التي تبرر وجود "الطبقية" و"التباينات الاجتماعية". لماذا يتخفى الرأسماليون المتوحشون إذن بين كذب السياسة وأغلالها، ويزيغون عن جزء كبير من آثار قيمنا المجتمعية التي تعلو على كل النظم والظرفيات وأسس العلاقات العامة؟ أليس حقيقا بهذه الدولة أن تمنع "التوحش" و"الاقطاعية" و"تفقير الشعوب" والإمعان في تجفيف منابع العقل والفكر وخرق كل قيم التكافل والتراحم والأمانة والصدق؟