إلى أخي الإنسان. نحن عابرون على هذه الأرض، تنسرب الأعوام من بين أيدينا، ونوشك أن نهرم ونشيخ ونموت. تلك سنة الحياة فلا تبتئس. مؤقتون وعابرون نفنى ويبقى الله، فلِم نتعارك، تعارك الضواري في الغابات، وحقيقةُ الحياة أنها فانية لا تدوم؟ رسالتي إلى أخي الإنسان وقد أنفقنا من أعمارنا سنة ودعناها ومضت، عسى هذه الكلمات تهدئ من روع الانكباب اللاهث على حياة متسارعة، هاربة، لا تلوي على شيء.. عسى تهدئ من غلوائي قبل كل الناس. وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء. يقول البرغماتي الذي خبر حقائق العصر وإكراهاته، يزن الحياة بميزان الربح والخسارة: "اصعد إلى برجك العاجي وأغلق عليك النوافذ والأبواب، فإنما أنت فنان حالم وطوباوي. ألف رواية إن شئت، لكن الحياة ليست قصة تنسج أحداثها مخيلة أديب". وأعجب كيف جنحت حياة الناس إلى هذا التعقيد الذي لا تفك طلاسمه مخيلات الطوباويين من أمثالي. أكتب اللحظة، وهذا العام يلفظ أنفاسه الأخيرة، عن "الحب" الذي لم نعد "نراه" سوى في مسلسلات "الغرام" الطويلة التي تبدأ لكي لا تنتهي. عن الحب الذي استحال قصصا غرامية تتغذى على الانتقام وتتوسل بالألاعيب والحيل علّ "الحبيب" يظفر بقلب "الحبيب" بعد حرب ضارية تنتهك فيها الأعراف والشرائع ! أكتب عن هذا "الحب" الذي نبكي من أجله وعيوننا مشدودة إلى الشاشات ونقتله شر قتلة حين يطل برأسه بيننا ينشد ظل عيش وشبهة حياة ! فهل يتسع صدر العالم اليوم ليسمع بشارة الحب يستظل بظلها، من لفح تكاليف الحياة، الآدمي الأبيض والأصفر والأسود؟ وهل في ما يكتب إنسان العصر ويبدع مجالٌ لإعلاء قيم الحب وإفشائها والتبشير بها؟ وأين معنى الحب في ما ينثال على مخيلاتنا من صور وكلمات في كل وقت وحين؟ أقصد حقيقة الحب الكامن في شغاف قلب كل إنسان، لا الحب "المصنّع" تحت الأضواء في استديوهات السينما. أعني الحب الفطري الذي أهالت عليه "مكيانيكية" العصر تراب السعي اللاهث وراء الرفاه والشفوف وامتلاك الأشياء. أعني، بكلمة، الحب الذي نتذكره حين ننسى كل شيء: هو نحن قبل أن نصير شيئا مذكورا. هو الإنسان مجردا عن كل شيء عدا انتمائه للجنس البشري. حب فطري وأخوة إنسانية: حقائق على الأرض أم أمانٍ معسولة؟.. إذا أخرجت يدك لم تكد تراها. ظلمات بعضها فوق بعض. ألقِ عينيك تلقاء ماجريات الحياة لترى كيف يتربص الإنسان بالإنسان ويكيد الإنسان للإنسان ويفسد الإنسان حياة الإنسان ! واسأل عن قيمة الحب للإنسان وفضيلة الشفقة على الإنسان !!.. وقد أسمعت لو ناديت حيا.. إن قدر البشرية أن تسعد، لا أن تشقى. فلِم نعاكس هذا القدر الجميل؟ ولِم نوقف، عنوة، تدفق الحياة على سجيتها. على الطبيعة كانت ولا تزال. لا يسبق غروب الشمس شروقها. إذا زرع الإنسان أنبتت الأرض وإن مشى ثبتت تحت أقدامه. لا تتزاحم الأيام ولا تتعارك الأزمنة. هي كما هي منذ كانت. كلٌّ يجري بحسبان.. عدا "هذا" الإنسان ! يقفز البرغماتي في وجهي، وقد سئم هذا الانزياح نحو التجريد: أعطنا حلولا "علمية" لمشاكل العصر. لا تحلق، بأجنحة الحلم، بعيدا عن وحل الأرض !.. يحسب العقل الغارق في "مستنقع" الأرقام أن حديث الروح لا ينفذ في الجدران السميكة التي نصبتها حضارة العصر حائلا بين الإنسان وبين حقيقة وجوده ومعنى حياته. وينسى العقل المدجج بالعلوم أن في علوم العصر ما يثبت أن "كيمياء الحب" حياة للأجساد وللأرواح. يدفن المتعالم أشواق قلبه في تراب السعي اللاهث عسى ينبت مجدا زائفا. وأنى له. كيف له، وإن أراد، أن يجتث منه ماهيته ومادة وجوده؟ لا وقت لإنسان العصر ليرهق أعصابه بالأسئلة التي تنغص العيش وتسبب الاكتئاب ! ولا شأن له، بعد ذلك، إن سارت حياة الناس على غير هدى تقودها الكراهية المقيتة والأنانية المستعلية !!