حين نتحدث عن الإمتاع، بوصفه وظيفة الفن الأولى، فليس القصد الترفيه قطعا؛ إنه آلية نفسية تحرك بواعث الجمال ومكامنه، أعني تشوّف الإنسان إلى الجمال وتشوّقه إليه، وهو أمر - كما ترى – أعمق من مجرد التسلية (أو الإنترتيمنت). والإمتاع قرينُ الإقناع، شأن العاطفة والعقل، غير أن القوامة للعواطف المشبوبة على الحسابات الجافة..والفن يأبى الخشونة والجفاف، ولكنه يأبي، بالقدر ذاته، التهريج والتصنع. وعلى مائدة الفن تجتمع الإنسانية..أو هذا ما ينبغي على الأقل. وهذا الجهد الساعي إلى توسيع مساحات المشترك بين بني الإنسان إنما يقوم به - أول من يقوم – الفنانون والمبدعون. والحق أن الفكر يفسد الفن. والمدارس الفنية، على اتساعها، لم تتحرر من قبضة الفكر الموجه، وظلت حبيسة أنساق نظرية مغلقة لم تستطع أن تعانق الأفق الإنساني الرحب. وقد كتبت في غير هذا الموضع: إن التعبير الفني ليس، في المحصلة النهائية، سوى تعبير عن ذات الفنان الفرد في انتصاراتها وانكساراتها، وفي أشواقها ومطامحها العليا. والفنان، في كل ذلك، يصدر عن واقع الناس ويعبر عنه من حيث تعبيره عن ذاته.. يعكس هذا الواقع عبر مرآته هو. وتلك خصيصة الفن الأولى ومعياره الأساس. وحين تنتفي هذه الذاتية الجميلة في المنتوج الفني يصبح كل شيء سوى أن يكون فنا. أعني أن "الفن المسقوف" بسقف الفكر - أنى كان هذا الفكر - هو أقرب إلى الوعظ والتلقين والبيداغوجيا.. إن إنتاج الجمال، بهذا المعنى، ينهل من "ذاتية" الفنان ويصب في "موضوعية" الواقع؛ وهو التعبير الأصدق والأدق والأعمق عن الواقع الإنساني وطموحه وأشواقه. والفن - بما هو نتاج للعواطف المشبوبة والمشاعر الرقيقة - يحمل بشارة الحب وفضيلة الخير وخصيصة الجمال. وقبل اليوم، سألت: فهل يتسع صدر العالم اليوم ليسمع بشارة الحب يستظل بظلها من لفح تكاليف الحياة الآدمي الأبيض والأصفر والأسود؟ وهل في ما يكتب إنسان العصر ويبدع مجالٌ لإعلاء قيم الحب والخير وإفشائها والتبشير بها؟ وأين معنى الحب في ما ينثال على مخيلاتنا من صور وكلمات في كل وقت وحين؟. إن قدر البشرية أن تسعد، لا أن تشقى، فلِم نعاكس هذا القدر الجميل؟ ولِم نوقف، عنوة، تدفق الحياة على سجيتها؟.. على الطبيعة كانت ولا تزال.. لا يسبق غروب الشمس شروقها.. إذا زرع الإنسان أنبتت الأرض وإن مشى ثبتت تحت أقدامه.. لا تتزاحم الأيام ولا تتعارك الأزمنة. إنه - باختصارٍ شديد - الجمالُ حين يفيض على الأرض..وهو كامن بالقوة فيها. وإنما يقبس المبدعون منه فتائل نور..لعلها تضيء درب الإنسان..وقبل ذلك..تنير عقله وقلبه!.