لم أعرفْ رجلا مثقفاً وشاعرًا فذًّا، جُنَّ بوطنه جنونًا بلا ضفاف، كمثل الشاعر –الذي أغمض عينيه قبل أيام- سعيد عقل. فقد بلغ عشقه وهيامه بلبنان حدا تخطى الحد، وتجاوز "المنطق" والمعقول"، وحُقّ له إذ أن لبنان آية السماء في الأرض، وعنوان الأناقة والحضارة الإنسانية منذ البعيد.. السحيق، منذ ليل الليل، وبدء البناء والتشييد على يد رجالات ابتدعوا الحرف والأبجدية، والموسيقا، والطبخ، وتفننوا في إيجاد معادل للحياة يحمل الحياة، ويجعلها شأنا مرغوبا حميما وجماعيا في آن، شأنا يلبي الحاجات والضروريات، ويشبع الجَوْعَةَ إلى الفن والرسم والمسرح والكتابة. جنون الشاعر الأنيق، الكبير سعيد عقل متأت من بعض ما سطرناه، من حقيقة الحق، وواقعية الواقع الذي يحيل على تاريخية المجد والسؤدد الذي عرفه لبنان القديم، وكان في العالمين رمزا للحضارة، والتجارة والملاحة، والسبق في شتى الميادين الثقافية، والمجالات الحياتية المختلفة. وهو ما دأب سعيد عقل على إيراده ومناولته، وتوصيفه في كتاباته النثرية، وأشعاره المتميزة، المترعة برقيق التعبير، وجميل النسج اللغوي، وبديع الجَرْس الموسيقي، وعذب التصوير الشعري، وبراعته وتفرده. شعر سعيد شعر خاص ومخصوص، يتموج ضوءا، ويتواثب لمعانا ولألأة وأنت تقرأه أو تسمعه. تكرس اسم سعيد عقل منذ الأربعينات من القرن الماضي، كشاعر أنيق مظهرا ومخبرا، لبناني صَيْدُونِي حتى العظم. يشرب لبنان، ويتنفس لبنان في الصوت والصمت حيث يلوب شعره البديع الصافي بينهما فيمنح اللذة، ويعطي النشوة، والإدهاش والإبهار. وعلى مسيحيته المركوزة، دعا إلى التعايش الدياناتي، والتسامح الفكري، وافتتن بالإسلام، ببعض آياته الكريمات البينات، وبعض أحاديث الرسول الأكرم ذات البعد الإنساني السامي التي كرمت المرأة، ودعت، تَبْعا للقرآن، إلى التعارف والتساكن بين الشعوب، وإلى كلمة سواء بين كافة الملل والنحل، والديانات حيث لا تضارب ولا تناحر، ولا افتئات وتبجح وادعاء. فقلة من الناس، وحتى من جمهور القراء العريض من يعرف أن "سعيد عقل" هو صاحب القصيدة الأشهر التي غنتها فيروز العظيمة بصوتها الأبهر : "غنيت مكة أهلها الصِّيدا"، وهي قصيدة بديعة في لغتها وفي صورها، وفي موسيقاها، وَجَرْس حروفها، وفي موضوعها الإنساني الكوني الذي يرفع مكة بما هي رمز الإسلام والمسلمين، إلى أعلى الذرى، وأشهق القنن والقمم. هذه واحدة أما الأُخَرُ، فانتصاره للمحبة السائرة، والجمال الذي يتعين أن ينتشر ويفيض على الأفراد والجموع، وكذا مديحه العالي المتفرد في مجاله، للبنان، والشام، ومشمولاتهما من طبيعة وإنسان وحضارة أزلية أبدية، وعمران يتيه على العالمين. ولعل هذا الحب الشاسع الواسع المترامي، حبه للبنان الذي وَقَّعَهُ شعرا ونثرا وخطابةً، والذي رفعه إلى العلا على مِحَفَّاتِ من ضوء وضياء ونور، صوت فيروز الملائكي، إذ أضفى على الجمال جمالا، وزاده عمقا وابتهالا، لعل هذا الحب أن يكون وراء "سقطته" السياسية والإيديولوجية أيام تقتيل الفلسطينيين، واجتثاتهم من مخيمات لبنان في الجنوب، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين كما يسجل التاريخ، علما أنه كتب أجمل الشعر للقدس وفلسطين. فهو هَلَّلَ لدخول الجيش الإسرائيلي إلى لُبْنان غازيا وطاردا المقاومة الفلسطينية، ومنكلا برموزها. وَهَّللَ لطرد الفلسطينين مما تبقى لهم من مآوي وملاذ بئيسة في قطاع الجنوب اللبناني. وقد تكون له مبرراته فترتئذ، والمسألة متروكة في البدء والختام للتاريخ. هكذا يعمي الحب إذا زاد عن الحد، وتجذر في العاطفة المشبوبة، والإحساس الداخلي، وحجب العقل، ووارى المنطق وواقع الأحداث والأشياء. وللغافر أن يغفر لسعيد عقل – وقد أصبح في ذمة التاريخ- سقطته، واندفاعه غير المحسوب، للغافر أن ينكب على شعره قارئا ومستقرئا، وواقفا على الدرر، والبدائع، والجمال. لم تعرف اللغة الشعرية تشكيلا بارعا، وتركيبا ساطعا، وبناء باذخًا، وموسيقا روحية منسابة إلا على يده هو، على يد سعيد عقل. فلغته لغة مهذبة ومشذبة ومرهفة ، والجمل الشعرية فيها شذور ذهب ، وسبائك قطيفة ومخمل . وبهذا المعنى، فهو –في نظري- جُمَاعُ شعريات باذخة، وكلاسيكية تعبيرية فارهة يتجاور، ويتقاطع فيها كل من إلياس أبو شبكة، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وبشارة الخوري : (الأخطل الصغير)، والشاعر القروي، وبدوي الجبل، وعمر أبو ريشة، وجوزف حرب، وفؤاد حداد ، وإيليا أبو شديد، وطلال حيدر، والأخوين رحباني.. وآخرين، حتى لا أذكر إلا الشوام. كما يَتَشٍرَّبُ شعره الرمزي المنقوع في الضوء وماء الفتنة، أصداء ونثار شعر الفرنسيين الكبار ك : فيكتور هوغو، وتيوفيل غوتييه، وكلوديل، وجُونْ جُوفْ، وماري نويل، وَلاَفُورْكْ، وبودلير، ومَا لاَ رْمِي، وفيرلين. ومن ثم لم يخطيء النقاد الذين قاربوا شعره، وتناولوا أقاويله الشعرية، حيث دمغوها ووسموها بالرمزية والشعرية الصافية الخالصة. سعيد عقل مجدد من داخل الكلاسيكية الشعرية الشامخة. فإذا كان محمد مهدي الجواهري سيد الجزالة والقوة والرصانة الشعرية، فسعيد عقل سيد الأناقة والرقة والليونة الشعرية، والهفهاف اللغوي. لهذا الأمر وغيره، للغافر أن يغفر "زَلَّتَهُ" لأنه باعج طريقة فنية وكيفية تعبيرية، وأمير بَوْحٍ أقاويل شعرية ذات طعم مخصوص، ونكهة فنية فادحة العذوبة والجمال. فهل كُتِبَ على الكبار في الفكر الإنساني أن يزلوا ويزلقوا ليتركوا الأشياع والأتباع والمعجبين في حيص بيص، في حيرة ما بعدها حيرة، ودفاع يحتاج قوة الحجة، وسداد الرأي، وصلابة العريكة، ليدرأ عنهم التهمة ويُبَيِّضَ سجلاتهم وسِيَرَهُم. في البال، عملاق الفلسفة الوجودية مارتن هيدجر الذي سكت على الأهوال النازية، وصمت عما ينبغي أن يقال في خصوص الفكر النازي العنصري الاستئصالي. فكيف –إذًا- نأخذه بجريرة الموقف السياسي وإن كان في عمقه موقفا فكريا فلسفيا – لِنقبر فلسفته، ونطوح بها في الخلاء، ونطعم النيران بها؟. والحال أننا لا نقدر – البتة- تخطي الفلسفة الهيدغرية لأنها فلسفة شامخة أعلت من قيمة الإنسان والفن والشعر والوجود والزمن، وأقامت صرحا نظريا استباريا للكون غير مسبوق. تَيَّمَهُ لبنان واستهام بتاريخه وزمنتيه العظيمة الضاربة.. المتجذرة في صلصال البدء والابتذار، والبناء والتشييد. لبنان المعلم.. معلم اليونان ومعلم مصر الفرعونية، ومعلم الكون الإنساني عند نشوء الحضارة والثقافة والتجارة، والشأن الاجتماعي اليومي العام. لنستمع إلى سعيد يقول : "لا يتنازل لبنان عن رعاية العقل، وعلة وجوده الوحيدة أنه عقل، ولا يَسْتَجِيزُ لنفسه أن يبغض،، وأجمل ما في تراثه أنه حب، ولا يقبل بأن ينكفيء على ذاته، واتجاه فعله هو انفتاح على العالم وما فوق العالم. سوف يكون لبنان، بحكم إرثه، هَدْيًا لكل مُسْتَهْد، ومدرسة حب لكل مبغض، وَسِعَةً لكل ابن حق ضاق به صغر الأرض". [من مقدمته لكتابه الشعري "قدموس" المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر- الطبعة الثالثة 1961- بيروت]. هو ذا الحب الفائض الطاغي الذي غطى على كل ما عداه حتى أضحى –إذا شئنا- تعبدا وتقديسًا وشوفينية عمياء ما قاده إلى ما قاله . غير أن الشوفينية الوطنية – أحيانا- وفي بعض الملمات تحديدا، تكون واجبا حضاريا ووجوديا، ومصيريا وثقافيا بامتياز. وها هو يَصْلَى حبا للبنان متباهيا متفاخرا : هو، يَا ابْنَ الصَّيدُونْيا حظكم يوما تهزون صفحة الأرض هزا وَتَقِلُّونَها، إلى الشمس، في مراكب أرز يهدي إلى الشمس أرزا تقحمون المجهول من ساحة الفكر وتلهون بالخفايا الأحاجي كل شيء منكم وما أنتم يوما؟ لَأَنْتُمْ ذكرى سَنًى في الدياجي ! [قدموس] إنه الحب والذنف اللذان سَقَيا جل شعر سعيد عقل، وتعديا إلى فيروز الملائكية التي شحذته وصهرته بعجيب صوتها، وجمال وجلال صُدَاحِها، فزادته طلاوة وحلاوة تُسْكرُ السكر نفسه، وتَسْحَرُ السحر عينه. ولنا أن نذكر بعضا ونزرا من عجيب شعره المغنى، ورائق كلامه المخمس والمثنى. يتعلق الأمر ب : "قرأت مجدك"، و"شام إذا السيف" و"خذني بعينيك أيها القمر"، و"حملت بيروت" و"أمي يا ملاكي" و"سَيْفٌ فَلْيُشْهَرْ" و"أحب دمشق" إلخ.. إلخ. شعر بديع متألق بما لا يقاس، سما وناهز الذروة، وسنام الروعة على لسان فيروز.. وفي حنجرة "سفيرتنا إلى النجوم" كما أطلق عليها سعيد عقل نفسه، ذات انشراح وابتهاج وانخطاف بصوتها. وهو التوصيف البارع الذي التصق بسيدة السيدات الجليلة فيروز، وظل –حتى اليوم- كناية عنها دَالاًّ عليها. عاش سعيد عمرا مديدا، عامرا بالمجد الشعري، والسؤدد الكتابي، والصيت البعيد، والأناقة الرائدة. وفي الأثناء كان غريب الأطوار، يخرج على القاعدة والذائقة، والتصور العام، فيخلخل الميزان، ويزعزع الثابت والساكن. ففي الشعر، دعا إلى الرمزية والتجديد من داخل عمارة الشعر العربي التليد، ومن داخل البنيان الأوروبي العقلي والمغامر في آن، ودعا – من جهة أخرى- إلى اعتماد العامية وسيلة لسانية في التواصل اللغوي والثقافي –مشافهة وكتابة ماجَرَّ عليه الهجمات والاتهامات، والرمي ب"البيدقية" والعمالة للمخابرات الصهيونية والعالمية التي تسعى إلى هدم العربية كلغة وهوية ورافعة حضارية للشعب العربي. وقد أبدع فيها وبها شعرا – أقصد العامية اللبنانية- غنته فيروز بطبيعة الحال. وهو شعر عامي لا يقل إبداعا وجمالا عن شعر الزجالين اللبنانيين الكبار، وعن شعر الأخوين رحباني. ولم يكن في ما أتاه وما قام به، بِدْعًا بين الشعراء العرب الكبار، فأحمد شوقي الشاعر الكلاسيكي الكبير كتب شعرا بالعامية غناه محمد عبد الوهاب موسيقار الأجيال، وكذا فعل الشاعر الرومانسي الفذ، شاعر المرأة : نزار قباني – إذ أبدع بدوره نصوصا شعرية عامية خالدة، فَلْنُشِرْ فقط – إلى رائعته التي صدحت بها الفنانة الرائعة نجاة الصغيرة : "سَاعَةْ مَا بَشُوفَكْ جَنْبِي" إلخ. أبدع سعيد عقل في اللونين، وأتى المدهش المعجب ما رفعه إلى أعلى عليين في فردوس الشعر والشعراء. يتعين –كتحية إلى روحه الطاهرة – التي أمست تحلق في الأجواز العليا، نجمة سعد بارقة تَتَلألأ، ناثرة من فضة ضوئها، ولجين شعاعها، شآبيب ألوان، ونداوة طل وحروف على جبال لبنان مُجَلْببة الذرى بالثلج الممراح، يتعين قراءة تراثه الشعري الباذخ، والإنصات عميقا إلى المتفردة فيروز وهي تشدو أعذب الكلام، كلام سعيد، فتميد أرض، ويصحو جدول، ويصيح ديك، ويتمايل شَجر، ويغني أرز ومرعى، ويصخب جدول، ويعلو صوت مزمار قادم من قاع صَيْدُون وَصُور.. وكل نقطة في لبنان.. من قاع الحضارة الفينيقية، والعروبة المسيحية العتيقة... تلك التي كرس لها ذوب عمره... كرس لما مئويته كلها واصفا ومادحا، معليا من كعبها، مبرزا تاريخيتها ويدها البيضاء السمحة على العالمين.. فسمع جَرَّاءَها ما سمع، وَرُميَ بسببها بِما رُمِيَ، وغلبه حبها حتى أعماه وأدماه، وَجَرَّ عليه ماجر (والهوى غَلاّبْ) !! أما شعره فهو الشهادة له بأنه كامل. وداعا سعيد عقل.. وداعا أيها الشاعر الملك وداعا مجنون لبنان.