اختارت "ليفني" دولة مصر محطة أخيرة لإطلاق قنبلتها الدبلوماسية بعد سلسلة من التمهيدات السياسية للعمل العسكري في قطاع غزة، وبعد توهيمات عديدة على المستوى الداخلي لإضفاء عنصر المباغتة وخلق المفاجأة بإطلاق العنان لآلة التدمير الصهيونية خلال هذا الاعتداء الوحشي والهمجي والعنصري لأبعد الحدود. "" طبيعة العدوان وحيثياته وتوقيته، والتكتيكات التي سبقته ورافقته، وردود الأفعال التي تلته، أبانت كلها عن العديد من المتغيرات والإشكالات التي تحكم خيارات المقاومة والممانعة من جهة، ووسائل كبح هذه المقاومة معنويا وتحجيم أدائها الميداني من جهة أخرى. كرونولوجيا الإرهاب الصهيوني انطلقت مع وقت الظهيرة حيث ذروة الحركية في الشارع العام، وهو ما يحمل نية مبيتة للإبادة، ليس فقط للعنصر البشري كمكون مادي للمجتمع الفلسطيني، وإنما أيضا إبادة لقيم الصبر والصمود والتحدي التي تطبع القيم المشتركة التي يحملها هؤلاء البشر على أرض الرباط. وما يزيد من تأكيد هذا الإمعان الصهيوني في إراقة الدماء الفلسطينية، هو إعادة قصف نفس الأماكن التي سبق تدميرها في خطوة لإسقاط مزيد من كوادر المقاومة والأطر الصحية وعموم الشعب المتداعي للنجدة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولم تفرق آلة الإبادة الصهيونية بين من يحملون السلاح وبين المدنيين العزل، فطال التقتيل كل من صمد على أرض غزة، وسيطال كل من لم يقرر الفرار بجلده بعد فتح معبر رفح كما أعلن على ذلك محافظ سيناء المصرية، وتحت ذريعة استقبال الجرحى، الشيء الذي تم التراجع عنه لاحقا. مصر التي ادعت فتح معبر رفح بعد فوات الأوان، وبعد إعطائها الضوء الأخضر لفعل شيء ما وإنهاء الحصار، أصدرت بيانا أدانت فيه "الغارات على غزة" وحملت "إسرائيل مسؤولية ما أسفرت عنه" من ضحايا. البيان تزامن مع تهديد أطلقته متحدثة باسم جيش الهجوم (المسمى "جيش الدفاع" زورا وبهتانا) تتحدث فيه عن "إمكانية استهداف قيادات من حماس". وفي الوقت الذي قيل فيه أن محمود عباس يجري اتصالات مع زعماء العالم لوقف "الهجوم الإسرائيلي" وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي، خرجت كونديليزا رايس لتصفع هذا الجهد الدبلوماسي بالتأكيد على ضرورة "توقف صواريخ حماس على إسرائيل حتى يتوقف العنف" تلتها صفعة مدوية أكثر رنينا من المتحدث باسم البيت الأبيض يكرر ذات القصد بمصطلحات أكثر عمقا بالقول أن "على حماس أن توقف كافة أنشطتها الإرهابية" ليتراجع الكيان الصهيوني عن "حقه الطبيعي في الدفاع عن النفس" كما أضاف مندوب الولاياتالمتحدة لدى مجلس الأمن. وفي الوقت الذي كانت تتوزع فيه الأدوار الدبلوماسية بين الكيان الصهيوني والويلات المتحدة لتبرير العدوان وربح الوقت في تضليل الرأي العام الدولي عن الأهداف الاستراتيجية لهذا السعار الصهيوني. كانت بعض بيانات الشجب والتنديد الخجولة تتسرب من هنا وهناك، فيما تأجج الشارع العربي-الإسلامي والدولي، وانطلق من عقاله مالئا الشوارع بالهتافات المنددة والساخطة والمطالبة بالتحرك الرسمي والأهلي لرد العدوان واستنهاض مشاعر الوحدة والمقاومة. وفي خضم كل ذلك، لم تخل الساحة السياسية من التصريحات والتصريحات المضادة التي تحمل طرفا أو آخر مسؤولية ما وصل إليه الوضع. هذه هي صورة الأحداث بالتقريب، لكن هذه المجريات برمتها لا تشكل سوى قمة جبل الجليد الطافي جزئيا فوق مياه السياسة الدولية الهائجة أصلا؛ ذلك أن المحركات الرئيسية لأدوات الفعل تطبعها العديد من التداخلات والحسابات وتعرف تمايزات شتى، يمكن أن تتوزع في إطار الأحداث المدروسة إلى ثلاثة مستويات، لا يهمنا منها سوى مستويين اثنين مادام المستوى الأوسط يتجاذبه طرفي النقيض ولا يعدو أن يقتصر رد فعله على التفرج غالبا أو التوزع بين تأييد لفظي لطرف على حساب آخر في أحسن الأحوال. وهاهنا نفرد ما يميز ساحتي الفعل من متغيرات وفق ما أبانت عنه الأحداث الأخيرة. أولا: الوحدة في مقابل الانقسام والتشتت: في الوقت الذي توحد فيه قوى الاستعمار الجديد أساليب مواربتها وتوزع تكتيكاتها الدبلوماسية لتحقيق استراتيجيتها غير المعلنة من إسقاط خيار المقاومة، وتوجه ضرباتها العدوانية للإنسان الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية على السواء؛ في هذا الوقت، نجد ما يدعى "القرار العربي" مشتتا بين معسكري الحمائم والصقور، أو ما تسميهم دبلوماسية الإذلال: الدول المعتدلة (تيار الانبطاح في التصور الثوري) والدول المارقة (تيار الممانعة). وفي مقابل هذا الموقف الرسمي المتمزق في أصله، نجد موقفا شعبيا يزيد واقع الفرقة تأزما من داخل الساحة العربية-الإسلامية. وإذا كانت الجهود الأهلية قد ارتقت إلى مستوى الحدث من خلال نبذ اختلافاتها فيما بينها ونزولها موحدة إلى الشوارع العامة؛ فإن ذات المستوى لا يسجل في تصالح الموقف الرسمي مع الموقف الشعبي؛ الشيء الذي يؤكد الانطباع السائد بأن الحكام لا يمثلون رعاياهم وأن القرار الشعبي غير ذات قيمة لدى هؤلاء الحكام الذين ليست لهم بذاتهم قيمة لدى خصومهم. إضافة إلى ذلك، وأمام الصورة التي تظهر وحدة القرار الصهيوني من خلال جلوس الفرقاء السياسيين جنبا إلى جنب رغم توزع قلوبهم وتشتت اهتماماتهم الانتخابوية، نرى تفرق إخوة الأرض وشركاء الدم في هذا الوقت العصيب، تطلعا إلى تسجيل نقاط ميدانية تعزز قوة جهة على أخرى. الشيء الذي يزيد قتامة وضع الفرقة في صفوف الأمة ونخبها السياسية على الخصوص. ثانيا: التخطيط في مقابل العفوية والعشوائية: خرجت كثير من التصريحات التي تؤكد تخطيط الكيان الصهيوني لحملة العدوان على غزة منذ ستة أشهر، وهذا يعني أن إعطاء الانطلاق للهدنة صاحبه انطلاقة للتخطيط رافقتها سلسلة أحداث عبرت عن نكث إسرائيل لعهودها في خطوة تمهيدية لإيجاد مبرر لتطبيق خطتها بدفع المقاومة إلى الخيار الموضوعي في عدم تجديد الهدنة لعدم جدواها وتحقق ما تم الوعد به والاتفاق عليه. على المستوى الميداني، جاءت بداية العدوان مباغتة وموافقة ليوم العطلة اليهودية وقبل أيام قليلة من رأس السنة حيث العالم كله منشغل بالاحتفال بأعياد ميلاد المسيح عليه السلام، وهي فترة سيعقبها انتقال الرئاسة الأمريكية من جورج بوش المحسوب على المحافظين الجدد الداعمين لإسرائيل بغير حدود، إلى باراك أوباما الذي يتسم موقفه بالاعتدال مع الكثير من الغموض تجاه نواياه في السياسة الخارجية وتجاه إسرائيل بالذات. في مقابل ذلك، لا تظهر الساحة العربية-الإسلامية أي مؤشرات عن التخطيط للطوارئ -على الأقل- واستحضار الخطط البديلة التي من شأنها أن تتطرق إلى توجيه الفعل الميداني دون ارتباك وبلبلة، مع استحضار المعطيات الواقعية والإمكانات المتاحة وقياس الفرص والتهديدات التي تواجه هذا الفعل عبر مختلف مراحله. وحتى مع افتراض وجود هذا التخطيط، فإنه يضحي غير ذات قيمة أمام تعدد مشاربه وخلفياته وأهدافه وتكتيكاته بالنظر إلى تعدد التوجهات على الساحة الميدانية كما وضحنا ذلك آنفا، فبدل أن تصبح لدينا أهداف موحدة يسعى التخطيط لتحقيقها، تتوارى هذه الأهداف المفروض أن توجه الفعل السياسي العام ل"القرار العربي-الإسلامي" لتتيح المكان لأهداف متجاذبة ومتنافرة تسعى لتحقيق أجندة ذاتية بعيدا الرؤية المانعة والأبعاد الاستراتيجية الجامعة التي تشكل روح التخطيط. ونفس الأمر يتكرر مع المبادرات الشعبية التي نزلت بشكل عفوي إلى الشوارع؛ ذلك أن السيناريو الذي يتكرر مع كل حدث جلل (احتلال العراق/الرسوم المسيئة للرسول (ص)/حرب لبنان الأخيرة/تدنيس القرآن الكريم.. الخ) هو انطفاء جذوة التعبئة العامة للتعبير عن الرفض والتنديد، وخبو شعلة المقاطعة الاقتصادية والفكرية ونبذ التطبيع، الشيء الذي يترك مساحة كبيرة من احتمالات التراجع والخوف من عدم استثمار تجارب سابقة في بناء فعل شعبي مؤسساتي مهيكل بشكل فاعل وقادر على التأثير في مجريات الأحداث من خلال ما هو متاح قطريا وإقليميا ودوليا. ثالثا: الوعي في مقابل الجهل واللامبالاة: من السهل جدا أن يتعامل رواد الدهاء العالمي بشيء من الاستهتار مع مناطق واسعة يطبعها التخلف الثقافي-الفكري والاقتصادي والسياسي. ذلك أن أحد مميزات التخلف العربي في الوقت الراهن هو خرم الذاكرة العامة بالشكل الذي تُغيّب فيه الحقائق ويدجَّن فيه الإنسان المتخلف على البدائل المصطنعة التي تقدم كحقيقة واقعية لا يسمح بتجاوزها أو الرجوع إلى التحقيق في جذورها التاريخية والعقدية بالخصوص. وهاهنا نجد تغييبا كبيرا لطبيعة الصراع بين الكيان الصهيوني ومحيطه الإقليمي، ويتخذ هذا التغييب أشكالا متعددة تتغيى استهداف مختلف مكونات المجتمع العربي: نخبه ودهماؤه على السواء. ففي الوقت الذي تلوذ فيه قيادات الكيان الغاصب إلى مرجعيتها الفكرية الصهيونية المبنية على مغالطات واقعية وتزوير تاريخي وتحريف عقدي للتوراة، وتنطلق من تلمود عنصري قائم على الدموية والغصب والإرهاب المدمر للحضارة الإنسانية؛ في هذا الوقت، تنسلخ الأمة من هويتها وتتنكر لمرجعيتها وتستحي نخبها أن تنتسب للحضارة القائمة على الحق والرحمة والعدل، وترضى بالانسحاق والاستلحاق والتبعية تحت مسميات الحداثة والتقدم والازدهار وتحقيق التنمية... وغيرها من شعارات ما يسمى ب"المجتمع الدولي" الذي لم يسمن المتشبثين به ولم يغنهم من جوع أمام تكرر الدوس على قوانينه ممن يتزعمون العالم ولا يستحون من استمداد العون من الرب والدعوة بمباركته لاحتلالهم دولا بكاملها مؤيدين برؤساء دول "علمانية" أخرى لا يحركهم سوى ضميرهم المسيحي كما يرى طوني بلير. رابعا: المبادرة في مقابل الركون والركود: أو الفعل في مقابل رد الفعل: لا تسجل المبادرة العربية-الإسلامية الرسمية إلا في تقديم قرابين الطاعة والمسارعة نحو إعلان الولاء لفراعنة السياسة الدولية والهرولة نحو استرضاء "المجتمع الدولي" بتدليل الدولة الناشئة والمستنبتة في الأرض المباركة ضدا على عرض الأمة ومقوماتها الحضارية. أما على مستوى حشد الرأي العام الدولي لقضايا الأمة (العادلة كلها)، واستثارة الضمير الإنساني العالمي للوقوف سندا في وجه "الحقرة" التي يعاني منها الإنسان العربي والمسلم فلا أحد يبادر إلى ذلك، ولتبقى الساحة متروكة للمتاجرين بمحرقة الهولوكست لابتزاز الدول والشعوب واستصدار قوانين تجرم مجرد التشكيك في وقائع تاريخية المفروض أن تخضع للنقد وصولا للحقيقة الكاملة خدمة للإنسانية والأجيال الصاعدة. فيما تسجل المواقف الشعبية العديد من المبادرات التي تلقى صعوبات جمة، الذاتية منها والموضوعية، يتم التغلب عنها حينا، فيما تركن لنتائج سلبية أحيانا عديدة. وإذا ما انضاف عامل العفوية/العشوائية كما سبق تقريره؛ فإن الأمر يبقى غير ذات أهمية كبيرة. لكن -في مقابل ذلك- تبقى الآمال معلقة على هذا الشارع لمراكمة فعله الشعبي، وتجاوز هفواته لتسجيل مزيد من نقاط الضغط التي أعطت ثمارا مهمة خلال الأحداث الأخيرة، والتي أبانت عن تصاعد التمييز بين خط الخذلان وخط العزة لدى أفراد الأمة. وجدير بالذكر، قبل ختم هذا المقال، أن نشير إلى أن المتغيرات الواقعية -سابقة الذكر- لا يجب أن تحجب عنا حقيقة ميدانية ساطعة، والتي تتمثل في جبن المحتل الصهيوني والتجائه إلى أساليبه العدائية بعيدا عن المواجهة المباشرة التي وإن أقدم عليها، والمحتمل أن يقدم عليها رأس السنة في ذروة الاحتفالات، فستكلفه غاليا، ولن تكسر شوكة المقاومة أو تستأصل خياره في الأمة. فهكذا يصنع الكيان الصهيوني الوعي الشعبي تجاه القضايا المصيرية، الداخلية منها والخارجية، ويجند هذه الشعوب لخيارات مفتوحة وشاملة، وهكذا تحفر "إسرائيل" قبرها بفأسها وتخرب بيتها بأيديها وأيدي المؤمنين بمشروعها، ولسان حالها يختصره قوله تعالى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فَيَرْكُمَهُ جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون" (الأنفال: 36-37).