يا سبحان الله، فجأة أصبح نيلسون مانديلا رمزا للكفاح والنضال ومقاومة الميز العنصري، وأصبحت كل دول العالم برؤسائها وإعلامها وساستها ومواطنيها تشيد بخصاله وتتلهف على أخباره، وأصبحت صوره تتصدر أغلفة المجلات العالمية. يا سبحان الله، ألم يكن مانديلا بالنسبة لكم إرهابيا، كارها للبيض، عدوا للديمقراطية، غير متحضر، عدوا للطبيعة البشرية التي بنظرهم تجعل من وظيفة الأفارقة السود فقط خدمة أسيادهم البيض، وأن من حق الإنسان الأوربي أن يحتل ويعذب ويغتصب ويسجن أينما حل وارتحل... يا سبحان الله، فالكونغرس الأمريكي لم يسقط تهمة الإرهاب عن مانديلا إلا في يونيو 2006 ، وفي منتصف الثمانينات من القرن الماضي قال عضو البرلمان البريطاني تيدي تيلور، "إن مانديلا يجب أن يقتل"، كما وصف حينها عضو البرلمان البريطاني تيري ديكس الزعيم الجنوب أفريقي حينها ب"الإرهابي الأسود"، وكان الكل يتهرب من اللقاء به أو حتى التسليم عليه أو الإشارة إلى أن له علاقة به. بل حتى بشار الأسد الذي يقتل شعبه ويدمر حضارة عمرت لآلاف السنين ينعي مانديلا قائلا "إن حياة مانديلا كانت مصدر إلهام للمقاتلين من أجل الحرية ودرسا للطغاة "، فهل هناك طغاة أشد غطرسة منه. حتى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون نعى مانديلا قائلا: "إن مانديلا كان مصدر الهام للعالم وعلينا أن نستلهم من حكمته وتصميمه والتزامه لنسعى إلى جعل العالم أفضل"، مع العلم أن الأممالمتحدة لم تحرك ساكنا تجاه قضايا الميز العنصري في أفريقيا الجنوبية. لم يكن هدف مانديلا سوى تحرير شعبه من نظام أقل ما يقال عنه أنه مخزي، وأنه عار على البشرية. نظام حول الأفارقة السود أبناء البلد إلى خدم له ، وحول ثرواته إلى ممتلكات لهم، إنه نظام الأبارتيد، أو الفصل العنصري الذي حكمت به الأقلية البيضاءجنوب أفريقيا منذ سنة 1948 حتى سنة 1990. لقد كان نظام الفصل العنصري يجعل من الأفارقة السود أدنى درجة من باقي مكونات المجتمع الأفريقي بما فيهم البيض والملونين والأسيويين، وكان يحرم عليهم استعمال نفس الخدمات المتاحة للجميع باستثنائهم من نقل عمومي وصحة وتعليم، بل يحظر عليهم التواجد بمناطق معينة أو المرور ليلا بدون تراخيص، كل ذلك كان يتم بمباركة حكومية غربية خاصة من بريطانيا وهولندا وفرنسا وإسرائيل، وكذا الولاياتالمتحدةالأمريكية بل إن إلقاء القبض على مانديلا وإيداعه سجن روبن آيلاند أو جزيرة آيلاند لأزيد من 27 سنة، كان بدعم من المخابرات الأمريكية لم يكتف عملاء سي آي إي بدعم نظام الابارتيد العنصري بل قاموا بتقديم سموم لاستخدامها ضد الأفارقة مثل تلويث قمصان قبل توزيعها على المتظاهرين بسموم (مثل حمض البروسيك القاتل بتسببه بأزمة قلبية) تجعلهم يسقطون أرضا بانقباضات معوية مؤلمة فضلا عن وسائل أخرى وحشية في التعامل معهم. رحل مانديلا وقد خلف وراءه إرثا إنسانيا كبيرا، يضعه في مصاف زعماء القرن العشرين ممن ناضلوا للدفاع عن أسمى القيم والمبادئ الإنسانية كالحرية والمساواة، ومسيرته ستبقى لتشهد على كفاح طويل قدم أسمى الخصال الإنسانية بعيدا عن الأحقاد إذ اعتمد مانديلا على المصارحة والمصالحة لتوحيد شعبه. لم يعامل مانديلا من سجنوه وعذبوه وقهروا أبناء شعبه بنفس المعاملة التي يستحقونها، بل ذهب بنفسه لمصالحتهم، وغفران ما ارتكبوه في حقه من قهر وظلم وتعذيب. أعطى لسجانيه ومن في شاكلتهم وحتى الغرب المنافق دروسا في قمة التسامح والعفو، فلم يعاملهم بمثل معاملتهم له، بل كان أحسن وأفضل وأقوى منهم، لقد جعلهم يخجلون من أنفسهم. إنه مانديلا الذي رفض الانتقام من النظام السابق وحث شعبه على الغفران والعفو، لأنه أراد بناء بلد يقوم على الاتحاد وليس على الفرقة، بلد يقوم على قيم التسامح والقبول بالآخر وليس على التمييز والانتقام. وهو القائل، "لطالما حلمت بمجتمع حر وديمقراطي يعيش فيه كل الناس في تناغم ويحصلون على فرص متساوية". "إنه حلم أتمنى أن أعيش لأراه يتحقق. إنه أيضا حلم أنا مستعد من للموت في سبيله"، يضيف مانديلا. لقد شكل مانديلا عبر مسيرته النضالية، وعبر السنوات القليلة لحكمه مثالا يحتدى به في كل شئ. فهنيئا للقارة الأفريقية بزعيم أبان أن الأخلاق تسمو على السياسة، وأن نكران الذات يغلب على المصلحة والأنانية . لقد انفضت حفلة النفاق من حول موت زعيم أظهر بصموده عندما كان حيا الوجه الحقيقي لنظام غير طبيعي، وأظهر بموته زيف أنظمة تتخذ من حقوق الإنسان والعدالة والأمن والسلم سلعة ترتزق من ورائها، واسقط عنها أقنعة النفاق ودموع التماسيح، وأزال المساحيق عن وجوهم. * أستاذ التعليم العالي - كلية الحقوق بمراكش